من طول ما عرفتُ من العراقيين من أصول أرمنية تكونت لدي قناعة بأن هؤلاء المواطنين لا تنطبق عليهم صفة «الجالية» لأنهم غير منعزلين عن بقية المواطنين العراقيين من أصول عرقية أخرى، بل إنهم لا يختلفون إلا بأسمائهم المميزة، وبكنائسهم، وأحياناً بمدارسهم التي تعنى بالحفاظ على لغتهم وتراثهم، ولا أحسب من الإنصاف لومهم على ذلك، فهم لا يفرضون لغتهم ولا أساليب حياتهم على الآخرين. بل إنهم مسالمون في سلوكهم العام، غير عدائيين، ولا يدخلون في جدل أو خصام. لا أذكر أن الصحافة ذكرت لصاً أو مجرماً من أصل أرمني، ولا «متهما بمؤامرة» سياسية أو نحو ذلك، على كثرة ما تنشر الصحف من أسماء اللصوص والمحتالين والأشرار. وقد تساءلتُ مع نفسي غالباً: تُرى هل ثمة من تفسير منطقي لذلك؟ وما زلتُ لم أتوصل إلى جواب.
والأرمن الذين عرفتهم في العراق على امتداد عقود عديدة يتميزون بالمودة في علاقاتهم مع الآخرين. وهم يتميزون بالإخلاص في أعمالهم، ويبرعون في مهن عديدة، مثل الخياطة، والحلاقة، وأعمال الميكانيك، والتصوير، وهذه كلها أساسية في المجتمع المتحضر. والصفة الأشد بروزاً هي النظافة، في بيوتهم ومحلات أعمالهم. ففي وسط بغداد يقع «كمب الأرمن» يؤدي إليه عدد من الشوارع والأزقة المزدحمة بمحلات تصليح السيارات والسمكرة، وهذه لا تُشتهر بالنظافة… ولكنك عندما تدخل مناطق سكنى الأرمن في ذلك الكمب الذي كان مخيماً لجا إليه الأرمن المشردون من تركيا في فترة الحرب العالمية الأولى، تجد الأبنية ما تزال تحتفظ بجدرانها الطينية الأصلية، لكنها تغش الناظر بما طرأ عليها من تحسين وتنظيف، وصيانة. من هذا الكمب نشأ أطفال ذهبوا إلى المدارس والجامعات، وبرز منهم أطباء ومهندسون، تركوا آثاراً بارزة في حضارة العراق منذ عقد الثلاثينات من القرن الماضي فصاعداً.
وفي التعامل اليومي تكتشف الأرمني من لهجته في العربية، التي مهما حاولوا فيها تقليد اللهجات المحلية، تبقى النبرة الأرمنية هي الطاغية، مما يكسبها جاذبية خاصة. كما أن تركيب الجملة العربية تكشف عن «تحريف» غير مقصود للمعنى كذلك. كان «يروانت» حلاقاً معروفاً في الباب الشرقي ببغداد، بارعاً، سريعاً في عمله، يجتمع عنده عدد من الزبائن، يقضون وقت الإنتظار، ليحين دورهم، بالأخبار الطريفة التي «يبتدعها» يروانت وهو يتقافز ذات اليمين وذات الشمال وبيده المشط والمقص. لم يكن طويل الجسم ولا قصيره، بل كان كرويّ الشكل، مما يجعل حركاته التمثيلية شديدة الطرافة، يتحدث عن بطولاته في مهنته دائما، ويُشهد الزبائن على صحة قوله، بمن فيهم الجالس على الكرسي تحت رحمة المقص والمشط. مرة لوّح بالمقص والمشط متفاخراً بأنه «يحلق أكبر راس بخمس دقايق». فلما انفجر الزبائن بالضحك، صاح: «ما تصدقون»؟ فلما أفهموه أن «أكبر راس» في العامية البغدادية تعني «رأس الحمار» إنفجر هو بالضحك كذلك.
ومن طرائف البراءة الأرمنية في التعبير بالعربية أنني كنت في محل خياطة أرمني، وإلى جانبه زوجته الأنيقة التي تُعنى بملابس السيدات، وكنتُ أتذمر من زحمة المرور في الشوارع، فتبرعت «هاسميك» بالتخفيف عني قائلة: «إذا أنا أزعل مفهوم، لكن أنت شايف دنيا كثير.. أنتَ أجرب مني». ولم أستطع ان أفسر لها أن «أفعل التفضيل» لصفة «جرباء» ليست في مصلحتها.. لكن ضحكة زوجها جعلتها تحسب كلامها نكتة لطيفة.
وهذا «آرتين أبو القهوة» في منطقة «المربعة» في وسط شارع الرشيد، تهتدي إليه من روائح تحميص القهوة في دكانه الصغيرة. كنت أقف عنده لطلب «نص كيلو مع الهيل». و»آرتين» هذا شيخ وقور، بشوارب قطنية تذهب شرقاً وغرباً. كنا في «أيام الخير» حيث جميع الاستيراد بيد الحكومة، ولا نقدر على «التذمر» حول جودة البضاعة المستوردة، لأنها «حكومية» كنتُ أبدأ بتحيته بالجملتين الثلاثة التي أعرفها باللغة الأرمنية، من باب الملاطفة، فلا ينطلي عليه أنني لا أعرف غير كلمات التحية، التي يرد عليها باختصار لا تكاد تسمعه من خلف ستار شواربه. مرة تشاطرتُ أكثر فسألته «هذا قهوة يماني، سيلاني؟» فلم يجب لفترة حتى سلمني النص كيلو بالهيل وسلمته النقود، فقال: «نهنا ما يعرف سيلاني يماني.. هذا قهوة مال هوكومة». والظاهر أنه كان يخشى التبسط معي في الكلام، فقد أكون من «اللي بالك فيهم» فأبلّغ عنه أنه يتذمر من «قهوة مال هوكومة» ويلفظ «قهوة» بالكاف المعجمة طبعاً، على الطريقة البغدادية.
أما «هاروتون أبو الباسطرمة» على الجهة المقابلة من «أبو القهوة» فهو أقل حذراً في الحديث مع الزبائن، لأنه مثل «يروانت حلاق» فخور بمهنته التي لا يكاد يوجد غيره فيها. مرة سألته بالكلمتين الأرمني التي أعرفها: «هذا باسطرمة ثوم زيادة… ما يمكن بلا ثوم؟» فانتفض احتراماً للمهنة، وقطب قائلاً: «بابا ما يسير باسترمة بلا توم.. هذا سير لَهَم قديد». وما كنت أعلم أن «اللحم القديد» معروف عند الأرمن.. دليل آخر على جهلي. قلتُ «ما سير توصا خصوصي بلا توم؟» قال: «شلون يسير؟.. ممكن نص توم.. تعال أسبوع الجاي». واخيبتاه!
نتحدث، عن الكرم، وقد لمستُ عند من عرفتُ من الأرمن كرماً خاصاً، حتى عندما يكونون غير أغنياء. مرة كنتُ في زيارة لمدرسة الأرمن ببغداد قرب الكنيسة التي بناها لهم الوالي العثماني وكان الوقت قريبا من الظهر، فشممتُ رائحة طعام شهي، فعجبتُ أن يكون في المدرسة مطبخ. قال لي زميل: تعال إلى «كانتين بايجار مورا» أي الخالة بايجار، فهذا وقت الغداء والطلبة يجتمعون عند هذه السيدة الطيبة، التي تقدم لهم شطائر اللحمة و»القلية» أو «الميخلمة» بأسعار زهيدة. فلما رأتني الخالة مقبلاً مع زميل عرفت أني «زائر» فاسرعت بتقديم شطيرة «مخلمة دبل» ما زلت أذكر طعمها الطيب، ورفضت أن أدفع لها النقود، وهي التي تكسب عيشتها من عمل الشطائر للطلاب. فهل أكرمُ من هذا كرم؟
والطلبة في مدرسة الأرمن «تاركمنجاص وسولتيان» أو هكذا يلفظونها، يتميزون بالنظافة أولاً، وباحترام الوقت والعمل والواجبات المدرسية، واحترام الهيئة التدريسية والإدارية بشكل كبير. وفي الجامعة كان الطلبة الأرمن متميزين بهذه الصفات وبحسن المعشر. كان من بين طلبتي في الجامعة طالب «شاطر» جداً، إجتماعي جداً، يناديه زملاؤه بأسم «زاير أسادوريان» فلما سألتُ عن سر التسمية قالوا لي: «هذا أرمني، مولود في كربلاء، وأسرته مقيمة هناك منذ زمن طويل.. والده صائغ ذهب مشهور في كربلاء، لهذا اطلقنا عليه لقب «زاير» للعتبات المقدسة» وهو فخور بذلك، والكل ينعم بزمالة واحترام الآخرين… كانت تلك «أيام الخير».
صحيح أن الارمن الذين عرفتهم يشكلون جماعات متكاتفة في السراء والضراء، وهو سلوك طبيعي، ولكن لم أسمع قط بتجمع أرمني اعتدائي أو تعصبي أو ضد فئة أو جماعة عرقية أو دينية أخرى. ترى هل يعود ذلك إلى إحساسهم العميق بما وقع عليهم من ظلم وتهجير في العهد العثماني، مهما اختلف المفسرون في أسبابه، فصاروا يشعرون بالحاجة إلى الإطمئنان في بلد احتضنهم، سواء في لبنان أو في المهاجر الأوروبية والأمريكية، من مصلحتهم أن يثبتوا طيب نواياهم ونقاء سريرتهم ليعيشوا آمنين، مواطنين لا ضيوفاً مؤقتين؟
بقلم: عبد الواحد لؤلؤة،
نقلا عن القدس العربي (انقر هنا لعرض المقال في المصدر)