8431420481208.jpg

في الذكرى المئوية الأولى للمجازر… تحية الى الشعب الأرمني الجريح

يصادف هذا العام 2015 الذكرى المئوية الأولى للمجازر االتي ارتكبت بحق اهلنا الشعب الأرمني المسالم. هذه المجزرة الكبرى التي بدأت في 24 نيسان 1915 بأعتقال 600 شخصية أرمنية من السياسيين والمثقفين والنخب الارمنية في اسطنبول على يد السلطات العثمانية حيث قامت بتصفيتهم جسدياً عن بكرة ابيهم، كما قامت السلطات نفسها بتسريح كل الجنود من أصل أرمني الذين يخدمون في الجيش العثماني وارسالهم إلى الاعمال الشاقة ومن ثم قتلهم جميعآ دون رآفة او رحمة.

ولم يكتف العثمانيون بذلك، بل قاموا بالتزامن مع هذه الاجراءت القمعية بتوجيه انذار الى ابناء الطائفة الارمنية الذين يعيشون في منطقة الاناضول الشرقية مطالبين اياهم بضرورة مغادرة منازلهم خلال 24 ساعة وإلا تعرضوا للقتل، وعندما خرج هؤلاء من قراهم تمت تصفية كل الرجال وسُمح للنساء والاطفال والشيوخ بالهرب سيراً على الاقدام مسافة مئات الكيلومترات من دون غذاء أو دواء، وفي الطريق اغتصب الجيش العثماني النساء وقتل الاطفال الابرياء ونكّل بالشيوخ وقُتل معظمم المغادرين بشكل أو بآخر في جريمة بربرية ووحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

هذه الاعمال الهمجية المتواصلة ادت خلال عام أو أكثر بقليل الى قتل ما لا يقل عن حوالي مليون ونصف مليون أرمني أي نصف عدد سكان الأرمن العائشين في ظل الامبراطورية العثمانية في ابشع جريمة تعرفها البشرية ويعرفها التاريخ المعاصر.

ورغم تأكيدات المصادر التاريخية للقتل المتعمد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل الجيش العثماني خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من كل الوقائع الدامغة والتاريخية لا تزال تركيا الدولة التي خلفت الإمبراطورية العثمانية تنفي وقوع المجازر التي تؤكدها الأمم المتحدة، وهي تحاول التقليل من عدد الضحايا إذ لم تعترف بأكثر من 300 ألف قتيل كنتيجة لانتشار الأوبئة خلال فترة الحرب، مبررين ان الترحيل القسري كان لمنع انتشار الامراض والاوبئة، خلافاً لشهادات العديد من الناجين من المجازر وكذلك لشهادات العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين والاجانب الذين حملوا الامبراطورية العثمانية المسؤولية واتهموها بتدبير العملية عن سابق تصور وتصميم، مع الاشارة هنا الى ان المجزرة الأرمنية ترافقت مع مجازر وترحيل قسري بحق السريان والآشوريين والكلدان، واليونانيين القاطنين في الأناضول، حيث تباهت الصحف المحلية العثمانية يومها وعلى صفحاتها بقتل ‘الكفار’

الابادة او الجريمة الكبرى التي نفذت بحق الشعب الارمني الاعزل جرح كبير ودائم لن يندمل الا باعتراف وريثة الامبراطورية العثمانية بالابادة بحق الشعب الارمني وتصفية آثارها، والا فانها ستبقى وصمة عار تلاحقهم منذ قرن بالرغم من فشل جهودهم لطمس اثار الجريمة.

لقد أثبت الشعب الأرمني إصراراً عنيداً بعدم التخلي عن حقوقه، فقد حول المجزرة المنسية على يد العثمانيين لعنوان أنساني عالمي لا يمكن تجاهله، ففي كل مكان تتواجد فيه جالية أرمنية عملت هذه الجاليات بنجاح لدفع الدول المضيفة للاعتراف بالمجزرة, ومنها على سبيل المثال لا الحصر عدد كبير من الدول الأوروبية والبرلمان الأوروبي وكندا والمنظمات الدولية ومنظمات حقوق الانسان، وهذا ما ادى الى اعتراف اكثر من عشرين دولة رسميا بمذابح الارمن وبالاقرار بأنها إبادة جماعية، وهذا ما أقر به ايضاً معظم علماء الإبادة الجماعية والمؤرخين والذين يقبلون بهذا الرأي.

ومن المعترف به على نطاق واسع ان مذابح الأرمن تعتبر من الجرائم الجماعية الأولى في التاريخ الحديث والباحثين يشيرون في كتاباتهم الى ذلك وإلى الطريقة المنهجية المنظمة التي نفذت للقضاء على الأرمن وابادتهم من الوجود. فالدولة العثمانية خططت لقتل الأطفال من اجل افناء الشعب الأرمني برمته وهذا ما عرف بعد الحرب العالمية الثانية بحرب الإبادة أيGENOCIDE ، هذه الابادة دفعت بآلاف الأرمن الناجين إلى الهروب من أرمينيا في اتجاه مختلف انحاء العالم، وقد تضاعفت هذه الهجرة عبر الساحل السوري في اتجاه لبنان حيث اندمج الأرمن في المجتمع اللبناني وباتوا جزءاً من نسيج هذا الوطن الصغير على كل المستويات.

اتخذ العديد من ابناء الطائفة الارمنية قبل 100 عام لبنان موطناً لهم وتوسعوا جغرافياً وديمغرافياً حتى تجاوز عددهم اليوم الى ما يقارب 150 الف نسمة. وانشأوا على مر السنوات كنائسهم ومدارسهم وجمعياتهم ونواديهم الثقافية والرياضية واذاعتهم وصحفهم. وهم يتوزعون اليوم على مختلف المناطق اللبنانية ويتواجدون بشكل مكثف في مناطق برج حمود وعنجر وانطلياس وساحل المتن وزحلة وغيرها من المدن، ولهم في البرلمان اللبناني العديد من النواب ولهم ايضاً وزراء في الحكومة، ولهم مدراء عامون في الدولة، وممثلوهم في المؤسسات اللبنانية ( مصرف لبنان والجيش اللبناني والمؤسسات العامة والبلديات ) وهم يتوزعون على ثلاثة أحزاب رئيسية: الطاشناق والهنشاك والرامغفار.

يعيش الارمن في لبنان كبقية الطوائف اللبنانية، فهم اليوم لبنانيون من أصول أرمنية وقد لعبوا دوراً مهماً ومميزاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وشكلوا ثقلاً في الحياة السياسية اللبنانية وبقوا على مسافة واحدة من جميع الطوائف المكونة للشعب اللبناني. فلم يستفزوا مشاعر أحد ولم يشاركوا في الاحداث والحرب، ودفعوا ثمناً باهظاً بسبب موقفهم هذا، ورغم ذلك لم يتراجعوا عن هذه الاخلاقيات وقد احبهم الجميع واحترموا من قبل الجميع. واتسم الأرمن بالصدق في تعاملهم وحسن ادائهم، صدقوا في المعاملة وصدقوا في الحياة السياسية والاجتماعية، وبرز منهم وزراء ونواب وشخصيات اقتصادية وثقافية وتجار ورجال اعمال واطباء ومهندسون وفنانون وموسيقيون واعلاميون ولهم اذاعات وصحف تصدر باللغة الأرمنية.

ولهم مدارس وكليات أهمها جامعة هايكازيان التي تعتبر اليوم من اهم الجامعات اللبنانية. كما يتكلم الأرمن اللغة العربية إلى جانب احتفاظهم بلغتهم الأم، وبالرغم من ارتباطهم العاطفي بانتمائهم، لكنهم اندمجوا في مجتمعهم بشكل كبير وعملوا باخلاص للبنان.

عاش الارمن سنوات الشتات إلا انهم استطاعوا تكوين جاليات كبيرة، حافظت على علاقاتهم الاجتماعية وطقوسهم وتاريخهم الأرمني حتى استطاعوا تكوين دولتهم فيما بعد، ونالت أرمينيا استقلالها عن الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991، ورغم ذلك فهم يتمسكون بلبنانيتهم ويعتبرون لبنان وطناً نهائياً لهم.

لا تزال الذاكرة القومية تشحن الإيمان بالقضية الأرمنية، وتدفع الشعب الأرمني إلى طرح قضيته على كافة المستويات، من خلال وسائل سلمية مختلفة مثل: تنظيم التظاهرات الشعبية في عالم الشتات، تشكيل لجان الدفاع عن القضية الأرمنية، الاتصال بالمحافل والمؤسسات الدولية.

في الذكرى المئوية الاولى للجريمة الكبرى, وعشية عيد الميلاد لدى الطوائف الارمنية الارثوذكسية، لا بد من اصدار قوانين دولية تلزم جميع الدول ولا سيما الدول الكبرى بالتدخل لوقف المجازر بحق الشعوب والاقليات المستضعفة ومحاسبة مرتكبيها بصرف النظر عن المصالح التي تتذرع بها العديد من هذه الدول للسكوت عن المجازر، وكان آخرها ما حصل ويحصل في العراق وسوريا وليبيا ضد الاقليات المسيحية والايزدية والكردية، لان الأولوية يجب ان تكون للمصلحة الإنسانية الشاملة.

في الختام نطالب الدول الكبرى التي تدعي الحرص على الديمقراطية وحقوق الانسان ان يدينوا المجازر والجرائم المرتكبة بحق الإنسان قديمها وحديثها وخصوصاً تلك الجرائم التي حصلت بحق اهلنا الشعب الارمني المسالم والاعزل.

واليوم وفي الذكرى المئوية الأولى للابادة نطالب أحرار العالم بممارسة الضغوط على تركيا، لانه كلما ازدادت حملات الادانة ازدادت ضغوط الدول الأوروبية على الدولة التي خلفت الامبراطورية العثمانية والساعية للدخول إلى المجموعة الأوروبية للاعتراف بالابادة الجماعية للارمن، والاعتذار من الشعب الارمني، والتصالح مع ماضيها لضمان عدم تكرار مثل هذه المجازر في المستقبل.

نقلا عن: Lebanonfiles.com | بقلم: دافيد عيسى

scroll to top