5318.jpg

كاتب سوري: لماذا لا تعترف تركيا بالإبادة الجماعية الأرمنية

بعد مضي قرن على مجازر الأرمن، ووجود آلاف الوثائق والأدلة والوقائع والمعطيات التاريخية والاجتماعية بهذا الخصوص، واعتراف 22 دولة وأكثر من 40 برلماناً ومجلساً محلياً بالإبادة …. بعد كل هذا، لا بد ان يكون السؤال الجوهري: لماذا لا تعترف تركيا بالإبادة الأرمنية؟ هل هو فعلاً لعدم وقوع جريمة الإبادة كفعل أم لوجود أسباب يمكن وصفها بأنها قاهرة تمنعها من ذلك؟

بداية، لا بد من القول ان سياسة إنكار جريمة الإبادة فشلت، وان محاولة وضع الجريمة في سياق أعمال القتل التي وقعت خلال فترة الحرب العالمية الأولى تفتقر إلى المنطق والدقة، بخاصة أن مجازر الأرمن بدأت قبل هذا التاريخ بنحو ثلاثة عقود. كما ان محاولة القول ان سبب ارتكاب المجازر هو «خيانة» الأرمن للدولة العثمانية لا يبرر فعل الإبادة ومن ثم محاولة محو الذاكرة الأرمنية. وعليه، أمام قوة الوقائع التاريخية والاجتماعية، يبقى السؤال لماذا لا تعترف تركيا بالإبادة الأرمنية؟

في الواقع، ثمة أسباب جوهرية وكثيرة تقف وراء الامتناع التركي هذا، لعل أهمها:

1- التعويض: تقدر التقارير التي صدرت بهذا الخصوص حجم التعويض الذي سيترتب على تركيا دفعه في حال إقرارها بجريمة الإبادة ما بين 50 ملياراً إلى 105 مليارات دولار، وسبب اختلاف الرقم على هذا النحو، له علاقة إضافة إلى الخسائر البشرية بأموال الأرمن وممتلكاتهم التي صودرت خلال تلك الفترة، فبقرار من السلطات الاتحادية العليا وقتها صودرت أموال الأرمن وودائعهم المصرفية وممتلكاتهم بما في ذلك قصر تشنكايا الرئاسي قبل ان يبني أردوغان القصر الرئاسي الجديد الذي سماه «الأبيض».

2- ان الاعتراف بالإبادة يفتح الباب أمام إعادة الممتلكات الأرمنية، وهذا خط أحمر بالنسبة إلى تركيا يمس سيادتها وأراضيها. فالمسألة هنا، تتجاوز التعويض المالي أو حتى ترميم بعض الكنائس الأرمنية والاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية، وتصل إلى المطالبة بالأراضي التي تعرف بأرمينيا الغربية حيث جبل أرارات الذي يعد رمزاً وطنياً للأرمن، ولعل هذا ما يدفع القادة الأتراك إلى القول مراراً إن الغرب يريد تكرار اتفاقية سيفر التي أقرت بإقامة كيانين أرمني وكردي قابلين للتحول إلى دولتين في المناطق الواقعة جنوب تركيا وشرقها.

3- ان الاعتراف بالإبادة هو بمثابة ادانة للقادة الوطنيين الأتراك الذين أسسوا الدولة التركية، ويحتلون مكانة قومية كبيرة في وجدان الأتراك وأحزابهم على اختلاف مشاربها القومية والدينية واليسارية، فهؤلاء القادة هم من كانوا وراء الأوامر التي صدرت بعمليات اعتقال الأرمن وتجميعهم وقتلهم أو ترحيلهم، وادانة هؤلاء هي بمثابة ادانة لتاريخ الدولة التركية وضرب للأسس التي انشئت عليها، وللمفاهيم القومية والوطنية التي تربى عليها الأتراك، ومنها «هنيئاً لمن يقول أنا تركي»، «أنا سعيد لأني تركي». وما سبق يشكل المخزون الفكري والروحي لطريقة تعامل العقل السياسي التركي مع الآخر، وما قول أردوغان أخيراً «ليس هناك من قضية كردية في تركيا» سوى تعبير عن هذا العقل واستمراره بشكل من الاشكال.

4- التداعيات القانونية والدستورية، فمثلاً المادة 305 من القانون التركي تجرم اي شكل من اشكال الوصف أو الاعتراف بالإبادة الأرمنية، وكل من يقر بهذا الوصف معرض للسجن لمدة 15 سنة وفق القانون، وهذا يعني ان الاعتراف بالإبادة يتطلب تغيير القانون التركي. تضاف إلى ما سبق الجوانب الاخلاقية والقانونية والإنسانية التي ستكون وصمة عار في التاريخ التركي.

سياسة فاشلة

هذه الأسباب وغيرها هي التي تقف وراء امتناع تركيا عن الاعتراف بالإبادة الأرمنية، ومحاولة التهرب منها، والتقليل من أعداد الضحايا، وذلك بالقول انهم لا يتجاوزون 300 ألف أرمني ومثلهم تقريباً من الأتراك، في حين يقول الأرمن ان عدد الضحايا بلغ مليوناً ونصف مليون أرمني، في حين تقدر بعض التقارير عددهم بمليون وثلاثمئة ألف. لكن ينبغي القول هنا، ان تفاوت أرقام الضحايا لا يؤثر في جوهر القضية، أي وقوع جريمة الإبادة.
في الواقع، الخلاصة هي ان سياسة إنكار وقوع الإبادة فشلت، وهي بعد اليوم لم تعد لمصلحة تركيا بل قد تضر بها، وذلك للأسباب الآتية:

1- ازدياد عدد الدول والبرلمانات والمنظمات الدولية المختلفة التي تعترف بالإبادة الأرمنية، بما يشكله هذا الاعتراف من ضغط قانوني وسياسي ودبلوماسي على تركيا، علماً أن سياسة التهديد بسحب السفراء الأتراك من الدول التي تعترف بالإبادة الأرمنية لم تعد تجدي.

2- ان المصالحة مع أرمينيا وإيجاد تسوية للصراع على إقليم قره باخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان حليفة تركيا يمران عبر شكل من اشكال الاعتراف بالإبادة الأرمنية، وما تجميد اتفاق زوريخ الذي وقع بين تركيا وأرمينيا عام 2009 الا تأكيد لهذا الأمر.

3- ان تحرر تركيا الحالية من أسر التاريخ هو بالمصالحة مع هذا التاريخ، كما يقول المعلق السياسي التركي الشهير علي بيرم أوغلو الذي كتب مع صديقه جنكيز اقتار نص حملة الاعتذار للأرمن التي وقعها أكثر من 30 ألف شخص معظهم من المثقفين والناشطين والحقوقيين. واللافت هو تزايد وتيرة مطالبة المجتمع المدني في تركيا الاعتراف بمجازر الأرمن وانفتاح الإعلام على هذه القضية بعدما كان ذلك ممنوعاً. ولعله بسبب هذا التصاعد في حركة الاعتراف الداخلي اضطر أردوغان العام الماضي إلى تقديم شكل من اشكال الاعتذار عندما تحدث عن المأساة المشتركة للأرمن والأتراك.

4- ان رؤية تركيا لكون أرمينيا دولة فقيرة وضعيفة وامكاناتها محدودة تعيش تحت الحصار التركي – الاذربيجاني في مقابل قوة تركيا الكبيرة وامكاناتها الهائلة وعلاقاتها الدولية وعضويتها في العديد من المنظمات، تبدو قاصرة أو قائمة على نوع من المراهنة السياسية الخاطئة. فالثابت هنا، هو ان الأرمن نجحوا في إبقاء قضية الإبادة حية على رغم محاولة تركيا محو الذاكرة الأرمنية ومضي قرن على ارتكاب المجازر، كما ان اللوبي الأرمني في الخارج نجح في نقل قضية الإبادة إلى المحافل الدولية وجعلها حاضرة في نقاشات برلمانات معظم دول العالم ودفع العديد منها إلى إقرارها. ولعل ما يؤكد خطأ الرؤية التركية هنا، هو ان معظم الدول التي اعترفت بالإبادة الأرمنية حتى الآن تعدها تركيا حليفة لها أو تجمعها معها عضوية مشتركة ولا سيما في الحلف الأطلسي. ولعل الأخطر من كل هذا تلك الرؤية التي تقول ان تركيا قد تصبح متضررة اقتصادياً من الاستمرار في عدم الاعتراف بالإبادة الأرمنية، ويرى أصحاب هذا الرأي إن اللوبي الأرمني الذي نجح في دفع العديد من دول العالم إلى الاعتراف بالإبادة الأرمنية قادر أيضاً على تحويل هذا النشاط إلى فعل اقتصادي من ناحية القدرة على الحد من فرص استثمار دول وشركات عالمية في تركيا. ويرى هؤلاء ان تركيا قد تجد نفسها بعد فترة ملزمة بالاعتراف بالإبادة الأرمنية، بخاصة إذا رأت ان فؤائد الاعتراف أكثر من فوائد الإنكار، ففي النهاية القضية لا تتعلق بالتصالح مع التاريخ فحسب، بل بخيارات المستقبل أيضاً.

بقلم: الكاتب السوري خورشيد دلي | نقلا عن صحيفة الحياة

scroll to top