د. إسحاق أندكيان، 30 نوفمبر 2020 — لعب الإتحاد الفدرالي الروسي دور المراقب أثناء الحرب الأخيرة الّتي إندلعت بين دولتيّ الإتحاد السوفياتي السابقتين أرتساخ/أرمينيا وأذربيجان مع الترقّب و الإنتظار للتدخّل في التوقيت المناسب لحصد الثمار. تُرك أرمن أرتساخ وحيدين ليواجهوا مصيرهم وجبروت قوى عسكريّة ظلامية إتّحدت بهدف سحقهم على مدى 44 يوما ً من القتال الضاري إستخدمت خلالها كلّ الوسائل والإمكانات الماديّة والعسكريّة والإعلاميّة والدينيّة والإيديولوجيّة والإرهابيّة ومرتزقة تركيّا غبّ الطلب لمحاربة شعب بسيط لا يزيد قوامه عن المئة ألف من أرمَن أرتساخ لا يملكون إلّا الإرادة الصلبة للدفاع عن الوطن والتشبّث بأرض الأجداد التي عاشوا فيها لمئات السنين قبل نشوء دولة أذربيجان في العام 1918.
وحيدة ً جمهورية أرمينيا وفّرت الدعم و المساعدة لأرمن أرتساخ في حين أن أذربيجان قد دوّلَت الصراع بإقحامها تركيّا في الدعم السياسي والديبلوماسي والعسكري المباشر. فتركيّا إستلمت مهام القوات الجوّية الأذربيجانيّة إنطلاقا ً من مطار غانجا بدايةً ثمّ إستلمت إدارة العمليّات العسكريّة كافّة, ناهيك عن تحالف أذربيجان مع جورجيا وأوكرانيا ودور المرتزقة السوريّين والأفغان والباكستان. في المقابل, توقّع الأرمن من حليفتهم روسيّا التدخّل لحماية الأقليّة المسيحيّة التي كانت تتعرّض للإبادة العرقيّة مرّةً جديدة على يد ذات الجهّة التي إرتكبت الإبادة الجماعيّة في العام 1915. لكن, قيصر الكرملين صرّح أنّ التدخّل العسكري الروسي يحصل فقط في حال تمّ الإعتداء على جمهوريّة أرمينيا وأراضيها وفق معاهدة الدفاع الّتي تربط الأخيرة مع روسيا الإتحادية. فكان تبرير روسيّا أن أرتساخ ليست ضمن الأراضي الأرمينيّة وبالتالي أي إعتداء على أرتساخ لا يُعتَبَر إعتداءاً على أرمينيا يستدعي تفعيل معاهدة الدفاع المشتركة. فلو سلّمنا جدلا َ بصحّة وصوابيّة هذا المنطق, فمن المفتَرَض أن أرتساخ “كيان” مستقلّ -حتّى لا نقول دولة مستقلّة لأن المجتمع الدولي لا يعترف بإستقلاليّتها- ومن المفتَرَض أن تتمثّل بوفد “أرتساخي” عند أي مفاوضات حول مصيرها. لكن, جاءت اللّحظة المؤاتية للتدخّل الروسي بعد سقوط مدينة شوشي الحصينة و تفاجأ العالم بالتوصّل إلى توقيع إتفاقية “هدنة” ووقف لإطلاق النار بين روسيا الإتحادية ممثلة برأس دولتها وجمهورية أرمينيا ممثلة برئيس مجلس الوزراء وجمهورية أذربيجان ممثلة برئيس جمهوريتها. مع العلم أن سبق ذلك توقيع إتفاقيّة هدنة إنسانيّة لم تدُم إلّا لساعات بين كلّ من وزير خارجيّة روسيّا وأرمينيا وأذربيجان دون أي وجود رسمي لأي موفد أو شخصيّة من أرتساخ.
هنا مكمن المعضلة التي وقعت فيها روسيّا إذ وجدَت نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما, كلاهما مرّ ومحرج لها. فمن ناحية, إذا دعَت أي شخصيّة من أرتساخ لتمثيل الطرف الأساسي للنزاع, تكون روسيّا قد إعترفَت ولو ضمناً بإستقلاليّة -حتّى لا نقوق إستقلال- أرتساخ وهذا يتعارض مع موقف المجتمع الدولي من عدم الإعتراف بإستقلال أرتساخ. ومن ناحية أخرى, على جهّة ما تمثيل الجانب الأرمني-الأرتساخي في المفاوضات والتوقيع على إتفاقيّة الهدنة, فكان من الطبيعي أن يقع الخَيار على أرمينيا. هنا أوقعت روسيّا نفسها في تناقضات عديدة. فكيف لها أن تدّعي أن الإعتداء الأذربيجاني وقع على أرتساخ وهي أرض غير تابعة لأرمينيا وبالتالي لا تستطيع روسيّا تفعيل إتفاقيّة الدفاع المشتركة لأن الأخيرة هي إتفاقيّة بين روسيّا وأرمينيا وليس مع أرتساخ. هذا من من ناحية. ومن ناحية أخرى دعت روسيّا أرمينيا لتوقيع الإتفاقيّة بينها وبين أذربيجان فيما يتعلّق بأرتساخ وكأن الأخيرة تنتمي إلى أرمينيا وتُعتَبَر جزءاً لا يتجزّأ منها, وبالتالي يتوجّب على روسيّا تفعيل إتفاقيّة المشتركة بينها وبين أرمينيا لأن أرمينيا -وليس أرتساخ- هي التي وقّعت إتفاقيّة الهدنة مع الجانب أذربيجاني.
لكن ما فعلته روسيّا في واقع الأمر أنّها دعت أرمينيا لتوقيع إتفاقيّة الهدنة مع أذربيجان معترفةَ ضمناَ أن أرتساخ أراضٍ أرمينيّة, لكنّها تجنًّبًت تفعيل إتفاقيّة الدفاع المشتركة مع أرمينيا لأن من شأن ذلك إشعال حرب إقليميّة بسبب تدويل أذربيجان للنزاع. هذا ما لا تريده روسيا لأسباب عدّة لا مجال لذكرها هنا. أمام هذا التباين في تطبيق و تفسير القوانين والمعاهدات الدولية ندرك يقينا ً أنّ الدول العظمى بقوّتها العسكريّة وحساباتها الجيوسياسيّة تتحكّم بالعالم و شعوبه وفق مصالحها فقط دون أيّ إعتبار آخر. ففي نهاية المطاف وفي محصّلة الحرب الأخيرة, دفع الأرمن ثَمَن مصالح الدول الكبرى بخسارة حوالي عشرة آلاف كلم مربّع من أرتساخ وتشريد عشرات الآلاف من العائلات من أراضيهم التاريخيّة وتخلّهم مكرهين عن إرث ديني وحضاري وقومي يعود لمئات السنين. هذه التجربة المريرة قد زعزعت ثقة العالم والشعوب المقهورة بمؤسسات ومنظّمات المجتمع الدولي, بما فيهم الأمم المتّحدة والإتحاد الأوروبي, وأثارت الشكوك حيال القيم الإنسانيّة القائمة على العدالة والتعاون والأمن والسلم إذ يتبيّن للجميع مرّة ً أخرى أن منطق القوّة إنطلاقا ً من مدرسة الواقعيّة في العلاقات الدوليّة هي التي تتحكّم بمصائر الشعوب , وأن أية شعارات أخرى لا تغدو كونها ذرّ الرماد في العيون وتخدير لمشاعر الشعوب حتّى لا تنتفض على الظلم والإنتهاكات.
د. إسحاق أندكيان
باحث جامعي
لموقع أتلانتا في 30/11/2020