22301.jpg

سياسة التتريك.. من جمال باشا السّفاح إلى أردوغان!

سياسة التتريك.. من جمال باشا السّفاح إلى أردوغان!

بقلم بسّام بلاّن
نقلا عن العين الإخبارية

تاريخ النشر: 30 أبريل 2020

في عام 1996 عُرض لأول مرة على بعض شاشات التلفزة العربية مسلسل درامي ملحمي من إنتاج سوري بعنوان “إخوة التراب”، تناول أحداث الثورة العربية الكبرى التي اندلعت للخلاص من حكم الدولة العثمانية.

وسلّط المسلسل الضوء على اضطهاد الأتراك للعرب على أساس قومي شوفيني، خاصة بعد استلام حزب الاتحاد والترقي مقاليد حكم السلطنة. إضافة إلى دخول سلطنة بني عثمان البائدة الحرب ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا إلى جانب ألمانيا، وفرض التجنيد الإجباري على الشباب العرب وسوقهم بالقوة للخدمة في صفوف جيش السلطان، والذي سُمي حينها “الأخذ عسكر”.

مسلسل “إخوة التراب” أحدث ضجة كبيرة وصار حديث الناس، حيث هزّ بعنف المشاعر وعرّى الأكاذيب التي كان يروجها “بقايا العثمانيين” في الدول العربية ممن كانوا يشككون بالأحداث والروايات التي تُدين حقبة هذا المحتل وآثارها الكارثية على المنطقة، الأمر الذي دفع بالحكومة التركية آنذاك للتدخل لدى بعض الحكومات العربية لوقف بث المسلسل، خاصة بعدما قدّم للمُشاهد العربي “اختراع الخازوق” الذي كان يستخدم لإعدام مناهضي ومنتقدي السلطنة العثمانية، بكل ما فيه من بشاعة وإجرام.

وعرّى هذا العمل الدرامي الذي تدور أحداثه في سوريا، سياسة “التتريك”، والشروخ التي أحدثتها في العلاقة بين الجانبين، وموقف المتنورين العرب حينذاك الرافض لها وتداعيهم لعقد اللقاءات السرية والتخطيط للتصدي لها، والصراخ بأعلى الصوت: “نحن عرب قبل أي صبغة سياسية”.. في رد صريح على سياسات بني عثمان وتعبير عن نزوع كبير للتحرر ووضع حد لاستغلال الدين من أجل حكم المنطقة، الذي استمر 4 قرون تحت راية الخلافة الإسلامية.

سياسة التتريك والغطرسة والتعالي التي مارسها العثمانيون على العرب أدّت إلى تخلف المنطقة وإغراقها في مستنقعات الجهل والتخلف والفقر، لأن همّ الباب العالي كان سرقة ثرواتها ونفائسها ونقلها إلى مركز سلطانه، واستغلال طاقات أبنائها لخدمة الباب العالي.

وأفضت هذه السياسة إلى تخلف معظم الحواضر العربية مقابل ازدهار عاصمة الخلافة، فضلاً عن أن الدولة العثمانية لم تعطِ أي اهتمام للثقافة واللغة العربية، بل حاربتهما رغم أنها لغة القرآن الكريم الذي يحكمون باسمه.

وقد لعب الأزهر الشريف في القاهرة وجامع الزيتونة في تونس والجامع الأموي في دمشق والحرمان الشريفان في الحجاز والأقصى في القدس والنجف في العراق حينذاك دورا كبيرا في الحفاظ على اللغة والعلوم، معتمدة في تمويلها على الأوقاف وتبرعات الناس والمحسنين فقط.

وقد درّست هذه المراكز، بإمكاناتها المادية المتواضعة، علوم الرياضيات والهندسة والتاريخ وغيرها، ولولاها لكان الحال أكثر سوءاً والظلام أكثر حلكة.

وبما يشبه اليوم الأمس، يلجأ نظام أردوغان بعدما أعلن نفسه سلطاناً جديداً يطارد حلم إحياء السلطنة إلى اقتفاء أثر أجداده بسياسة التتريك، وتطبيقها على المناطق التي يسيطر عليها سواء في سوريا أو تلك التي دخلها بمساعدة أنظمتها، كحكومة فايز السراج في طرابلس غرب ليبيا، حيث جهزت تركيا خطة متكاملة لتأهيل مدرسين ليبيين لتعليم اللغة التركية في المدارس، وإيفاد مدرسين أتراك لنشر الثقافة التركية وإعداد جيل يدين بالولاء “للسلطان”، وبالتالي سلخ الأجيال عن عمقها العربي وثقافتها ومحيطها الحيوي.

وهذه السياسة بدأها نظام حزب العدالة والتنمية في المناطق التي احتلها مباشرة أو يحكمها من قبل قوى تابعة له في الشمال السوري، حيث لم يتوانَ عن تغيير معالمها وصبغها بالصبغة التركية وإحداث تغييرات ديموغرافية كبيرة فيها. فتم فرض التعامل فيها بالليرة التركية بدلاً من الليرة السورية، ورفع العلم التركي فوق ساحاتها وميادينها وأبنية مؤسساتها العامة، وغيّر المناهج المدرسية وأسماء البلدات من العربية إلى التركية.

سياسة التتريك هذه بدأت بعد دخول القوات التركية إلى المناطق السورية عام 2016، فأطلقت أسماء الضباط الأتراك الذين قتلوا في معارك السيطرة على شمال وشمال شرقي حلب في عملية “درع الفرات”، على المدارس السورية مع فرض اللغة التركية مادة أساسية في مناهج التدريس، وتعيين المدرسين الأكثر ولاء لها وتوجيه المنح الدراسية الجامعية داخل تركيا للموالين لها على نفقتها.

وفي عام 2018 وزعت وزارة التربية التركية وثيقة نهاية العام على طلاب المدارس المنتشرة في مناطق سيطرتها في “درع الفرات” شمال حلب، مدموغة بالعلم التركي دون أي إشارة إلى اسم سوريا، الأمر الذي أثار حفيظة الأهالي على اعتبار ذلك سياسة تتريك ممنهجة هدفها خلق وقائع جديدة على الأرض لنوايا مبيتة.

وأقام الجيش التركي نقاط تفتيش في المناطق التي يسيطر عليها موالون له.. وغيّر أسماء قرى سورية في ريف عفرين من الكردية إلى التركية.. وقام بتغيير اسم الساحة الرئيسية لتصبح “ساحة أتاتورك”، بعد تهجير مئات الآلاف من الأهالي والاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم.

وفي مدينة رأس العين افتتحت مدرسة أطلق عليها اسم “أنقرة” بحضور والي ماردين التركي، لتصبح المدرسة الثامنة في المناطق التي تحتلها القوات التركية أو تسيطر عليها الفصائل العسكرية المُؤتمرة بأمرها. كما نظمت قوات الشرطة التركية حملة لضم الشبان السوريين إلى صفوفها في منطقتي رأس العين وتل أبيض بريفي الحسكة والرقة.

هذه تصرفات تنتهك بوضوح كل القرارات والأعراف الدولية وتكشف عن كذب ادعاءات أردوغان بمناصرة الشعوب بينما في الحقيقة هو يجاهد لإيجاد مدخل لـ”العثمنة الجديدة” وإحياء سلطنة بائدة تملأ مظالمها وظلماتها ذاكرة الناس وكتب التاريخ، مستخدماً تنظيم الإخوان المسلمين وكل نتاجاته المتشددة والتكفيرية، كرأس حربة لمشروعه.

وما قام به في سوريا يحاول أردوغان نقله إلى ليبيا، التي أغرقها بالمرتزقة من كل حدب وصوب لمحاربة الجيش الوطني، وبالتالي التمكن منها عسكرياً للاستيلاء على ثرواتها وترحيلها إلى مركز “الخلافة” في أنقرة وإسطنبول، وهو ما يتطلب تحركاً مضاداً ليبياً وعربياً سريعاً وصلباً وتحشيد الرأي العام الليبي والعربي لفضح أهداف هذه السياسة في كل المناسبات وعلى كل المنابر الإقليمية والدولية، والتحرك قضائياً في المحاكم الدولية، وقبل كل شيء دعم الجيش الوطني الليبي بكل ما من شأنه دحر العدوان الأردوغاني وعملائه الداخليين.

لا شك أن الغالبية العظمى من أبناء الشعب الليبي مسكونون بروح شيخهم الشهيد عمر المختار، وهم قادرون على تحويل أحلام “السلطان الجديد” إلى كوابيس فوق رمالهم، ولكن ذلك يحتاج أيضاً إلى دعم ومساندة فاعلين من كل القوى العربية الحيّة الحكومية والأهلية، لأن كل تأخر في إنجاز هذه المهمة سيصّعب لاحقاً من إزالة مفاعيل وآثار هذه السياسات.

ومن هذا المنبر المحترم أتمنى من محطات التلفزة العربية، خاصة المؤثرة منها في الإمارات والمملكة العربية السعودية، التفكير جدياً بإعادة بث مسلسل “إخوة التراب”، كجزء مهم من معركة فضح الأهداف التركية ومطامع نظام أردوغان في المنطقة، وإظهار حجم التضحيات التي بذلها الآباء والأجداد لكنس هذا المحتل عن بلادنا.

scroll to top