15942.jpg

من هؤلاء.. بقلم: آرا سوفاليان

من هؤلاء.. بقلم: آرا سوفاليان

في بركة من الدماء وبين القتلى والجرحى وهم يلفظون النفس الأخير وبين الرؤوس المقطوعة المرمية هنا وهناك، والأطراف التي نزعت من امكنتها، وبين جثث النساء اللواتي كنّ حوامل قبل أن تبقر بطونهن وتنزع أجنتهنّ من أمكنتها، وتقذف الى الجدران، وقفت الطفلة Anna وهي تنتعل صندل وأصابع قدميها ملوثة بدماء ابناء قوميتها، وقفت وبيدها لعبة من قش وعلى اللعبة بقايا فستان كان أبيض اللون…وقفت Anna أمام جثة أمها التي تم اغتصابها حتى بعد الموت.

وهي لا تعرف من أين والى أين…وجلست أمام جثة أمها، وناولت امها اللعبة ولكن الأم لم تحرك ساكن، مسحت خدّ والدتها وأبعدت الشعر الأشقر الملتصق بالدماء وطبعت قبلة على خد أمها واستعادت لعبتها ووضعتها في حجرها بعد أن جلست على الأرض.

وفي الانجيل الأرمني تسمية جميلة هي Anna Hovakim وهذه التسمية تخصّ والدة السيدة العذراء التي تسمى بالعربية حنّة بنت واكيم…وكان اسم Anna متداولاً ومعروفاً لدى الأرمن في عام المجزرة الكبرى وما قبلها وما بعدها والى اليوم…اما Anna التي لا تعرف اين تقف ولا تعرف المكان الذي ذبحت فيه أمها وأصبحت جثة مرمية على الأرض، ولا تعرف أي شيء على الاطلاق إلا ترديد عبارة Anna المرّة تلو الأخرى، كانت جالسة على الارض تنتظر قدرها وتنتظر أمها التي لن تفيق أبداً.

وكان هناك من يعرف المكان والزمان وما حدث، وهو المتنوّر وقاضي القضاة وقائم مقام أعزاز الواقعة في شمال سوريا، الأستاذ شكري مصعب الحاج درويش من مدينة اريحا السورية التابعة لقضاء ادلب وكان في جولة على الخيل وبصحبة أولاد عمه وبعض المزارعين والعاملين في أراضيه، كان يتفقد الأرزاق بعد أن بلغه أن سوقيات الأرمن الذاهبين الى الذبح قد مرّوا عبرها.

نزل عن حصانه وجلس على الأرض في مواجهة Anna
ـ اعطوني شربة ماء لهذه الفتاة المسكينة
ـ فنظرت اليه الطفلة وقالت بصوت خافت Anna
ـ وضع الاستاذ شكري بك حق الماء الجلدي قبالة شفتيّ الطفلة ووضع يده اليسرى خلف رأسها فشربت الصغيرة، فقال لها هنيئاً أيتها الملاك الصغير
ـ فنظرت اليه الطفلة وقالت بصوت خافت Anna
ـ نظر شكري بك الى جماعته وسألهم هل لديكم طعام هنا؟ أجابه واحد من المزارعين…في زوادتي بعض الخبز والجبن
ـ اعطني حتى أطعم هذه الصغيرة…وكانت الصغيرة تزدرد بعض الخبز والجبن، وطلبت الماء من جديد وشربت وأعادت الحق الى شكري بك وقالت بصوت خافت Anna …احملوا هذه الصغيرة وخذوها الى بيتي، وقولو لعيالي ان يعتنوا بها، ويدخلوها الحمّام، ويلبسوها رداءً نظيفاً.
ونزل ابن عم شكري بك عن حصانه وهمّ بأخذ الصغيرة، ولكن الصغيرة أمسكت بملابس أمها ورفضت الذهاب، فحاول ابن عم شكري جذبها فأطلقت صرخة حادة، فقال شكري بك دعها، دعها لي…وحاول شكري بك حمل الفتاة فصرخت من جديد ومدت يدها بإتجاه أمها فأنزلها فذهبت تريد لعبتها وبكت وأبكت الجميع.
اذهبوا واحضروا المعاول واحفروا هنا وادفنوا الجميع…اجعلوا رؤوسهم الى الشرق فهؤلاء مسيحيين، ادفنوا النساء في معزل عن الرجال.
ـ ليست لدينا أكفان يا شكري بك تكفي كل هؤلاء
ـ لا حاجة للأكفان فقط ضعوا الرؤوس جهة الشرق
ـ هناك أجساد بلا رؤوس يا شكري بك
ـ مددوا هذه الاجساد بحيث تكون الرقاب الى جهة الشرق وضعوا الرؤوس المفصولة عن الاجساد في جهة الشرق
ـ هل نحضر الشيخ ليؤدي صلاة الجنازة؟
ـ لا لا تحضروا أحد فلقد سبقنا القتلة وأدّوا صلاة الجنازة وباشروا بعدها القتل وسفك الدماء.

نشأت الصغيرة في كنف آل درويش وهم من علية القوم، وتعلمت الكتابة والقراءة وحفظت ما حفظت من القرآن الكريم، وأطلقوا عليها اسم جديد لم تألفه فرفضته، وكانت قد عرفت من قبلهم بلقبها القديم الذي كانت تردده منذ عهد الطفولة وأول عهدهم بها، فلقد لقبوها بـ إنَّ ، أو أنهم استسهلوا أو طاب لهم ان يفعلوا ذلك، وظنوا أن اسمها يتعلقّ بـ (إنَّ وأخواتها فلقد كانت هناك ردّة قوية بإتجاه اللغة العربية بسبب التتريك ووحشية الطورانية) فلقبوها بـ إنَّ INNA.

وصارت في سن الزواج فأختار لها والدها قريب له تزوجها وانجبت وأرضعت وفطمت، وعرفت بالورع والتقوى ومخافة الله، فكانت لا تترك فرض وتصوم رمضان، وتحمل سجادتها معها في ظعنها وترحالها.

وولد لآل درويش طفل سموه هشام، ومرضت ام هشام ولم تتمكن من ارضاع هشام فانقطع حليبها، فوضعوا هشام على صدر (إنَّ) فرضع وعاش هشام وكبر وانتقل الى دمشق وانتسب الى كلية الحقوق، وكبرت إنَّ، وأضحى هشام الحاج درويش وزيراً للعدل، وسافر الى الكويت ليصبح مستشاراً للأمير صباح سالم الصباح أمير دولة الكويت ليعود في السبعينيات الى دمشق مصطحباً معه عائلته المؤلفة من زوجته وهي ابنة عمه تماضر الحاج درويش التي تجيد الأرمنية بلهجة الـ Spurk وباللكنة الارستقراطية المشهورة، وقد درست في مدارس راهبات الارمن الكاثوليك في حلب وسافرت الى فرنسا وأقامت أيضاً في دير راهبات الارمن الكاثوليك بإيعاز من والدها وذهبه، وعادت تحمل شهادة الطب البشري ورفض زوجها وهو ابن عمها ان تعمل لا في الطب ولا في غيره…ربما لأن تقاليد العائلة لا تسمح أو بسبب الملائة المالية والإكتفاء، والله أعلم، وابنته نوران هشام الحاج درويش المدرّسة في كليّة الهندسة المدنية في جامعة دمشق حالياً، وعزّام هشام الحاج درويش وهو حالياً يحمل الدكتوراه في علم التشريح المرضي ويعمل في الولايات المتحدة الأميركية كعبقري متميز. وعمّار هشام الحاج درويش صديق آرا سوفاليان في جامعة دمشق كليّة الاقتصاد والتجارة السنة الأولى.

وكانت (إنَّ) INNA في زيارة لإبنها هشام في دمشق، الذي شغل منصب رئيس محكمة النقض فور عودته من الكويت والذي خصص لوالدته في الرضاعة غرفة مستقلة في بيته الواسع.
وكانت إنَّ INNA في الملائة البيضاء والغطاء الابيض على رأسها تجلس وحيدة في غرفتها وصورتها تنعكس على البللور مع الشوكيات وأحواض النباتات وكنت أراها ولا تراني وسألت عمّار من هذه يا عمّار؟ فحكى لي القصة من الألف الى الياء…فقلت له يا عمّار هذه المرأة اسمها إنَّ INNA ؟ قال: نعم ولا نعرف لها اسم آخر وهي بالاساس لا تقبل بأيّ إسم آخر…قلت: يا عمّار هذه المرأة أرمنية وأسمها Anna وهذا الاسم ورد في الانجيل الارمني، وعلى عادة الارمن فهم يطلقون أسماء أرمنية على كل القديسين الذين ورد اسمهم في الانجيل وAnna Hovakim وهو اسم والدة السيدة العذراء وبالعربية حنّة بنت واكيم…سبعون سنة يا عمّار وهذه الطفلة والشابة والسيدة والكهلة والعجوز تحاول إفهامكم أن اسمها Anna وانتم تنادوها (إنّ) INNA …مسكينة هذه الـ إنَّ ومسكين شعبها الذي ذبح ذبح النعاج ودفن في المغاور والأحراج والصحارى والوديان وفي قاع الانهار.

هذه المرأة ربّت أبي وإخوته، فكانت المرضعة والمربية، وأبي لا يجلس إن هي وقفت ولا يأكل حتى تفرغ، ولا ينطق إن هي تحدثت إلا إذا استئذنها.

ونظرت الى البللور فكانت توجه سجّادة الصلاة الى القبلة، وتابعت حركاتها، وهي تسجد وتنهض فبكيت…وقلت لها في قلبي مناجياً…تعالي يا آننا تعالي لأقبل يديك الطاهرتين، تعالي لأقبل قدميك والصندل الذي ارتوى بدماء الأرمن، تعالي لأحدثك عن اولئك الذين استخدموا هذه السجادة فيما لا يرضي الله واختبئوا خلفها…تعالي لأخبرك من أنت وابنة من…تعالي أحدثك عن شعب مسالم ظنّ أن الحياة تتجلّى في حب الآخرين وأن الآخرين هم إخوته في الانسانية، واستضافتهم في أرضه حتى ضاعت أرضه وغرقت أحذية أطفاله في الدماء…تعالي يا أننا لأرشدك الى قبلتنا لتصلّي…وماتت آننا ووجدت من يغسّلها ويكفّنها وحظيت بجنازة لائقة لم يحظ بها أحد من عائلتها…لا أمها ولا أبوها ولا إخوتها …وكلهم ماتوا دونها وتحولوا الى حجارة في نصب تذكارية امتدت من أرمينيا والى آخر طرق الابادة.

***

في العام 1982 وفي شهر تموز تم فرزي الى نادي الرماية وفي اول مناوبة لي كضابط مناوب وفي تحية العلم الصباحية، سمعت جلبة في صفوف المجندين الخلفية، وشجار تحول الى ضرب بقضيب حديدي وعلى الرأس، أوقفت مراسم تحية العلم وركضت الى الصفوف الخلفية وكان هناك مجند من الرقة وهو من الشوايا لا زال يحمل بيده القضيب الحديدي ويقف في وضعية الهجوم بعد ان ضرب مجند آخر على رأسه وأحدث له حفرة مدماة في نقرته، ووقف والقضيب بيده ليدرأ جماعة المعتدى عليه وهم من دير الزور إن هم حاولوا الاقتصاص منه…فارسلت الجريح الى المستشفى وطلبت الفاعل الى مكتبي وسألته:

ـ لماذ أقدمت على هذا الفعل وأنتم على الأقل أخوة في السلاح؟
ـ انت لا علاقة لك بيننا …نحن نتكاوم ونتصالح ونتمالح وانت غريب.
ـ حسناً سترى من هو الغريب وأنا سألتك سؤال لم تجب عنه والأفضل ان تجب الآن وإلاّ فأنا مضطر أن أتصل بالانضباط فهؤلاء لهم اساليبهم التي تعرفها.
ـ لقد قال أنني ابن زنوة…وأنا لولا العشرة كنت سأقضي عليه، وفي كل الأحوال انت لا شأن لك بيننا.
ـ اتصلت بالذاتية وطلبت تحضير بطاقة زج في السجن 16 يوم وإحضارها الى مكتبي، لأتولى توقيعها من العميد عند حضوره، وقلت للمجند…إذهب الى عملك.

وانتصف النهار والعميد لم يحضر، ثم اتصل في المساء وقال لي: فقط في حالة حدوث أي طارئ إتصلوا بي الى البيت فأنا مشغول في مسألة هامة جداً ولن أحضر الى النادي إلاّ في صباح الغد.

وعلى الرغم من أن مناوبتي قد انتهت وعليّ المغادرة فلقد طلبت تحضير سريري وبعض الطعام، لأنني أنوي المبيت حتى صباح اليوم التالي وقلت للشاوي سأنام هنا اليوم لأضمن توقيع برقية الزجّ في صباح الغد من سيادة العميد لأتولى بعدها توصيلك بيدي الى السجن لتتم هناك عملية إعادة تأهيلك. ودخلت غرفتي وأقفلت الباب وتناولت وجبة العشاء وافرغت ربعية العرق في جوفي واستسلمت للنوم.

نهضت في الليل وحلقي متيبس ورأسي على حافة الانفجار بسبب الكحول ونهضت اريد براد المياه وهو بعيد، فسمعت وقع أقدام خارج مكتبي، فخفت خاصة وأن حوادث الأخوان كانت على أشدها وقتذاك، فحملت مسدسي وفتحت الباب وكان الشاوي يتمشى قرب باب مكتبي فقلت له:

ـ لماذا لست في براكيتك؟
ـ جئت أقول لك أنك لن تجرؤ على زجي في السجن
ـ إن غداً لناظره قريب
ـ لا لا …اقول لن تجرؤ
ـ لماذا؟
ـ لأن حبابتي (جدتي) أرمنية
ـ وما أسم جدتك؟
ـ اسمها مريم (نحن بدّلنا اسمها الارمني وكان بيروزا) فصار اسمها مريم…أم أكثم…وأكثم هو عمي الكبير، ومحمد هو أبي وهو الأصغر والبقية بنات.
وفتحت درج مكتبي وأخرجت البرقية ومزقتها، قال لي: سماح؟ قلت سماح…قال وسيادة العميد؟ قلت له: سأقول له انني عفوت عنك، ويبقى زميلك.
ـ شكارك بيننا نحن نتهاوش ونتكاوم ونتقاتل ونرجع اخوة.
ـ سأتدبر له اجازة مرضية طويلة يستخدمها في زيارة أهله.

***

في بدايات الانترنيت في سوريا كتبت في مواقع عديدة، ومنها سيريانيوز، واستطعت استغلال جوّ الحرية الذي كان سائداً فكتبت ولكن بحرص وبمنتهى التهذيب فكان هدفي سامياً وهو في باب ردّ الجميل لا غير…وحازت مقالة المناهج الحديثة على مئات التعليقات حتى تم اغلاق الحيز المخصص.

ارسلت فتاة أرمنية أيميل من القامشلي وقالت لي: لدينا في نادي الارمن شاب بحاجة للمساعدة وهو يطلب صداقتك ولديه قضية شائكة…قلت من هو؟ قالت: سأدعه يخبرك…قلت: هل هو أرمني؟ قالت نصف نصف…قلت ما اسمه؟…قالت: ستعرف منه…قلت ولماذا لا أعرفه منك؟ قالت: سيحدثك هو…قلت: هل أبوه أرمني ؟ قالت : نصف نصف…قلت وأمه؟ قالت: مسلمة. قلت: إذا هو مسلم: قالت نعم…قلت لها اعطني رقم موبايله في الحال.

واتصلت به وسألته عن اسمه فقال لي: ليس للأبناء خيار في انتقاء أساميهم لأنهم يولدون وتتم فيما بعد تسميتهم من قبل الأهل…والاسم الذي يطلقه الأهل على الولد غير هام…وإن شئت سأقول لك اسمي الفعلي الذي أطلقته انا على نفسي….قلت: ما هو؟ قال: ليفون …قلت اسم أرمني محض …قال نعم…وأشعر أنه يخصّني ويدور مع دمي في عروقي.

وتحدثنا طويلاً…وقال لي: حياتي كارثية…قلت لماذا؟ قال: انا يفترض أنني كردي وأنا لست كردي ويفترض أن والدي هو كردي أيضاً، ولكن، هو ليس كردي ووالده يعتقد ان ولائه لقبيلتنا لا ينتهي وهو غير مشروط ومحبته لإخوته في التبني ولأولاد عمه شيء لا يختلف إثنان عليه.

قلت: أين المشكلة؟ قال: جدي اسمه خاتشيك وهو أرمني…ومنذ اللحظة التي عرفت فيها أنه أرمني فارق النوم جفوني…وانا كنت ولا زلت اذهب الى نادي الارمن في القامشلي ولكن منذ اللحظة التي عرفت فيها ان هناك دماء ارمنية في عروقي عرفت سبب محبتي لهذا النادي ولكل الارمن الذين فيه مع العلم أنني كردي ويفترض ان اكون مسلم والكل يعرف ذلك والدين بالنسبة لي هو شيء لا يعنيني فلا رسل ولا أنبياء ولا سماء ولا عرش ولا خالق ولا رازق ولا رحمن ولا رحيم ولا شيء من كل ذلك.

قلت له: انت حر فيما تعتقد ولا سلطان لي عليك سواء كنت تعبد الشجر أو الحجر أو البقر أو الوثن أو الصنم أو العجل اذهبي أو النخل أوالتمر…ولكن حدثني عن جدك.

قال: يقول جدي أنه إبان مجزرة الأرمن الكبرى في العام 1915 أن الغرباء اقتحموا الدار وأن والدته رمته في سلة الخبز ووضعت غطاء السلة القش في مكانها فرفع الغطاء وأخذ يسترق النظر والسمع فرأى الدماء على الجدران ولم يبق في الدار أحياء، فصرخ وبكى وجاء اناس آخرون أخرجوه من سلة الخبز وأخذوه الى مكان لا يعرفه وهناك تبنته اسرة كردية وعمل في الرعي وكان على فخذه الأيمن وشم واضح بلغة غريبة لا يعرفها، وكبر وكبر معه هذا اللغز ومرة ذهب الى كنيسة الارمن وقابل الخوري ليسأله عن هذا الوشم فقال له الخوري هذا اسمك بلا ريب…هنا مكتوب بالأرمنية KHATSHIG وهذا اسم أرمني أصيل ولا يشاركنا أحد فيه.

قلت له: وأين جدك الآن …قال: تحت التراب، قلت: وماذا تريد مني ؟ قال: أصبر حتى تنتهي قصتي…قلت تفضل: قال: منذ عشر سنين جاء وفد من الارمن وتجولوا في أحياء المدينة وأجروا لقاءات مع كبار السن فلقد كانوا في صدد عمل فيلم يتعلق بالمذابح الأرمنية، وأجروا مقابلة مع جدي الذي نزع ملابسه عنه ومكّنهم من تصوير الوشم، وذهبوا ولم نر فيلم ولم نسمع عن أي فيلم…قلت له: فإذاً…قال لي: لقد مات جدي وذهب الوشم مع جثته وضاع الاثبات الوحيد على انني أرمني وعلى الاقل من جهة والدي…وعرفنا أن الوفد الذي أجرى المقابلات كان برئاسة طبيب ارمني هو رئيس المجلس الملّي في كنيسة الارمن الأرثوذوكس في حلب، قلت: هل تعرف اسمه قال: لا لا أعرف…قلت له وانت تطلب نسخة عن هذه المقابلة التي أجراها الوفد مع جدك؟ قال: نعم صحيح…قلت: اسمع يا ليفون إن كان الماستر موجود فستصلك نسخة المقابلة مع جدك…قال: الماستر موجود موجود وقد ذهب آخرون الى الكنيسة وقابلوا الطبيب ورفض اعطائهم أي نسخة رفضاً قاطعاً وقال: هذه مسودة فيلم عن الابادة وهناك سرية مطلقة وحقوق ملكية وهناك شركاء في العمل ومن المستحيل اعطاء أي نسخة لأحد، قلت له: انتظر تلفون مني اخبرك فيه انني حصلت لك على نسخة وعليك ان تسمح لي بالمقابل عمل نسخة لي…قال: بالطبع ولكنك لن تفهم حرف مما جرى في المقابلة لأن المقابلة كانت باللغة الكردية.

وقع في يدي …كيف أعطيت الوعد للرجل وعلى أي أساس؟ وأخلدت للنوم وفي اليوم التالي ومن قائمة الأطباء في حلب عثرت على رقم موبايل الدكتور هامازاسب شاهينيان وهو من كبار أطباء التقويم وتجمعني معه علاقة صداقة عادية وأيضاً لا توجد علاقة عمل بيننا …واتصلت فقال لي انا في البولمان ذاهب الى دمشق لدينا مؤتمر طبي…قلت له مؤتمر التقويم في نادي الشرق؟ قال نعم قلت: سأمرّ لأراك في المساء…وذهبت ولم تكن العلاقة عادية كما توقعت لأن هناك أمور تحدث مع قرّائي أجهلها…فهم يتفاعلون مع ما أكتب ويحلّقون معي وفي عالمي ويحبونني وأنا لا أعرف فتتحول الصداقة العادية في عالمهم الى شيء آخر قوي ومتين وحميم ولكن لا علم لي به….حدثته عن موضوع ليفون وعن المقابلة وقلت له: أريد نسخة من هذه المقابلة، فقال لي: من عيوني…واسترسل قائلاً: أنأ أعرف عن هذا الموضوع وقد حدثت مشاكل من قبل والمعني بهذا الأمر يرفض رفضاً قاطعاً إعطاء نسخة لأحد…ولكن أنا أيضاً عضو في لجنة الكنيسة ولا يردّ لي طلب…وبالمثل فإن آرا سوفاليان هو موضع حبي وحب كل الأرمن وبالتالي فهو أيضاً لا يرد له طلب…سيصلك الـ سي دي بالأهلية أو بالقدموس…فأنت يا آرا ليست لديك فكرة عن الحيّز الذي تحتله في قلوبنا.

بعد بضعة أيام اتصلوا من القدموس وقالو أن لي ظرف من حلب في قسم شارع الحمراء، فذهبت وصار السي دي في السيارة.

وعدت الى البيت وشاهدت المقابلة وكانت فعلاً باللغة الكردية ولكن كانت هناك ترجمة صوتية باللغة الأرمنية…وشاهدت السي دي مرة تلو الأخرى ورأيت خاتشيك الكهل وهو يشير الى موضع الوشم على فخذه ويقول للجنة أنا أرمني أنا أرمني وهذا هو الاثبات…والمصوّر يقترب يريد لقطة قريبة للوشم…قلت: ماذا فعلنا حتى يفعلوا بنا ما فعلوا…ثالوث العار طلعت باشا وانور باشا وجمال باشا السفاح قتلوا من الأرمن مليون ونصف أما الذين نجوا من المذبحة وخاتشيك منهم، فهم جميعاً ضائعون وخاتشيك مثلهم…قال طلعت باشا لهنري مورغنتاو لقد انجزت في ثلاثة أشهر ما عجز عبد الحميد عن إنجازه في ثلاثين سنة…والآن لقد كسرت ظهر الأرمن لخمسون سنة قادمة.

ومضت السنوات الخمسون والستون والسبعون والثمانون والتسعون والمئة ومفاعيل الابادة لم تنتهِ.

سحبت نسختين عن السيدي واتصلت بليفون…قلت له: صار جدك خاتشيك في يدي، وعملت لك نسخة عن السي دي وهو يحوي المقابلة فقط وسأرسلها لك الى القامشلي عن طريق ايزلا.

قال لي: نعم ولكن أنا في الشام الآن …قلت أين ؟ قال في الديماس…قلت هل يمكنني أن أراك قال نعم والمزة هي أقرب مكان بالنسبة لي…قلت له أين في المزة؟ قال أمام محطة المحروقات في مدخل المزة القديمة، قلت: نصف ساعة وأكون هناك قال: انا أحتاج لساعة…ووصل ليفون بعد ساعتين وقبّلته وضممته الى صدري وكان الـ PC في السيارة وحضرنا المقابلة…وذهبنا معاً الى مطعم الياطر لتناول العشاء ، وجولة طويلة في شوارع دمشق وانا لا أشبع من رؤيته ولا من حديثه وهو لا يشبع من رؤيتي ولا من حديثي…وقلت له: احتفظ بنسختك جيداً وسأحتفظ بنسختي وإن ذهبت الى القامشلي ضع وردة بالنيابة عني على قبر خاتشيك…قلت له: هل تصدق ان قلت لك شيء؟ قال أصدق بالتأكيد لأنك انت الذي سيقول. قلت حسناً: ان اختيارك

لأسم ليفون هو أختيار موفق لأنك تشبهه…قال: هذه العبارة كنت اسمعها في نادي الارمن في القامشلي…الكل كانوا يقولون لي أنني أشبه الملك ليفون ولكن اسم ليفون لا يكفي فأنا أريد كنية أرمنية…قلت له اختر أي واحدة…قال: لا …أبداً…لي الشرف أن يختار لي آرا سوفاليان كنية.

قلت له اسمع يا ليفون…المقاومة بدأت من ساسون ولحقتها زيتون، وساسون ابيدت عن وجه الأرض بمعية السلطان عبد الحميد وقبل الأتحاد والترقي وكانت نهاية من بقي من أهل صاصون أشد النهايات رعباً…فلقد تجمع ما بقي من أهل صاصون في الكنائس وهم غالباً من النساء والأطفال والشيوخ، فتم اغلاق كافة فتحات وأبواب ومنافذ ونوافذ تلك الكنائس بمكعبات القش التي تمّ إشباعها بمادة النفط وتم إضرام النار فيها فتفحمت تلك الكنائس بمن فيها…وبسبب المقاومة العنيفة وحتى آخر ساسوني فلأهل ساسون مكانة مقدسة في قلوب الأرمن وبالتالي فأنا سأختار لك كنية مقدسة وهي (ساسونيان) ليفون ساسونيان …إسم جميل وكنية مقدسة.

وذهب ليفون للعمل في لبنان وكنا نتحدث كل يوم…وغاب عنيّ لفترة ثم….(((تحية حب هائلة لليفون ساسونيان الذي هاجر الى أرمينيا والذي عاد للتحدث معي من هناك على الفيس بوك هو ومجموعة من أرمن القامشلي والحسكة الذين قرروا العيش في أرمينيا بعد الذي حدث في بلدهم البديل بكل أسف))))

أرجو أن يكون قد نجح ليفون ساسونيان في مسعاه وحصل على الجنسية الأرمنية…فلا مشكلة في كونه معمّد في كنيسة أرمنية أو غير معمّد …بل يكفي والى حد الكمال أن يكون معمّد في كنيسة أخوه في الدم.. آرا سوفاليان.

Levon Sassun Sassounian أحبك يا أخي في الدم، الأرمن يحتاجون لك ولمن هم مثلك، أصحاب جواب السؤال ( من هؤلاء؟؟؟) نحتاج لك كسند، لدعم قضيتنا التي هي قضيتك وقضية جدك KHATSHIG. وأفتخر بك بطريقة لا يمكن لك تصورها، وارجو انك قد رضيت عني الآن فلقد كتبت قصتك وقصة جدك، حتى ولو بشكل متأخر…وسلامي الى تلك الفتاة في نادي الارمن في القامشلي التي نسيت اسمها…والتي ارسلت لي من القامشلي وعبر ايزلا كمية كبيرة من كعك عيد الفصح كمكافأة وهي لا تعملم بأنها هي الأحقّ بالمكافأة لأن الذي فعلته هو من بديهيات الواجب.

***

ـ سنذهب لنضع علم آرمينيا على أعلى قمة في جبل آراراد يا آرا
ـ لن تتمكنوا من فعل ذلك لأن آراراد تحت الاحتلال ولا يمكن الصعود الى قمته إلا من الجانب التركي
ـ سنصعد ومن الجانب التركي
ـ والعلم الذي معكم؟ سيبقى معنا حتى نصل الى قمة آراراد فنضعه هناك ونعود وسأزودك بالصور المتعلقة وافلام الفيديو فور عودتي.

وهناك وفي منتجع سياحي بناه الاتراك…تدخل باصات البولمان التي تقلّ السياح على شكل قوس فينزل السواح ليتناولوا وجبات الافطار ويتزودوا ببعض الحاجيات التي تعينهم في التسلق وهناك من يستعين بأدلاء سياحيين ليصبح التسلق مأموناً ويدفعون الرسوم بشكل مسبق في مكتب الأدلاء السياحيين.

وطلب صديقنا دليل سياحي ودفع الرسوم وخصصوا لمجموعته دليل سياحي اختاره المكتب واستقلوا ميكرو باص ذهب بهم وبالدليل الى ابعد نقطة وبدأ التسلق ووصلوا الى القمة وقد انتصف النهار وزاد…ففتحوا حقائبهم وأخرجوا أعلام آرمينيا وزرعوها في كل مكان وأخرجوا علم كبير ولافتة عليها شعارات و كتابات تتعلق بحزب التاشناك وأخذوا الصور التذكارية وتركوا الاعلام في المكان وعادوا…وهم يتوقعون أن يخبرّ الدليل السلطات ليتم اعتقالهم…وحاول احدهم استمزاج رأي الدليل واستدراجه فكان الجواب مفحما بعد أن دارت المحاورة الآتية.

ـ هل لديك فكرة عن الشيء الذي فعلناه على القمة وهل لديك فكرة عنّا ومن نكون؟
ـ نعم فأنتم أرمن وتتحدثون التركية بلهجة استمبول المخففة التي نجهلها هنا في شرق تركيا، اما ما فعلتوه على القمة فهو رفع أعلام أرمينيا وأعلام وشعارات حزب التاشناك…وهذا ما لا يعاقب عليه هنا، خاصة وان الحكومة حالياً تغض النظر عن هذه الأشياء…بالاضافة الى انني انحدر من أصل أرمني
ـ ولكن وعندما ارسل مكتب السياحة في طلبك عاد المستخدم ليقول انك في المسجد
ـ نعم أرمني في المسجد ولولا ذلك لكنت أثر بعد عين بحيث لم يكن لي وجود بالأصل لا أنا ولا أبي، لأنهم كانوا سيقتلون جدي وكل افراد عائلتنا في العام 1915…لقد اختار جدي أن يتحوّل الى الاسلامية هو واخوته وتم الابقاء على عائلتنا في تركيا وتم تغيير اسماء من بقي من افراد عائلتنا الى اسماء تركية، ومنذ ذلك اليوم وحالنا حال انا وقبلي ابي وقبله جدي وإخوته، ولا زالت لدينا الذخائر وصور العائلة قبل الابادة وبعدها، وضعنا وضاعت لغتنا وضاع اصلنا فأنا بالكاد اعرف بعض الكلمات الأرمنية، ولكن لدينا ذخيرة وهي علبة من الفضة فيها صورتين متقابلتين الواحدة للسيدة العذراء والثانية للسيد المسيح وبينهما ذخيرة صغيرة هي قطعة خشب من صليب السيد المسيح وهذه العلبة والذخيرة التي فيها جلبتها جدة ابي معها من القدس عندما زارتها في العام 1854 كما هو مدوّن على اسفل العلبة، نحن جميعاً لنا اسماء ارمنية ولكن لا نجرؤ على استعمالها… فأنا اسمي موشيغ…وفي كل مرة أصعد مع السياح وهم في الغالب من أرمن أميركا الى قمة آراراد تضربني موجة من الهيستيريا أتمنى أن اتجه من القمة الى الغرب وأصرخ بعدها أننا أتراك بالاكراه وان جذورنا تنتمي الى قومية أخرى ولغة أخرى ودين لا نملك منه إلاّ علبة فضة.

لسنا وحدنا في هذه الدوامة فمثلنا كثيرون ويقدّرون بالملايين، يعرفون انهم من أصل أرمني ولكن أضاعوا بوصلتهم وأضاعوا كل اتجاهاتهم بسبب سيوف آل عثمان، وبسبب القهر والذل فقبلوا بالأهون وهم صاغرون… ولكن من المحال ان نبقى على هذا الحال…فالبراكين تبدأ ببعض الهدهدات والعيص.

***

ـ الحمد لله انني عثرت في هذا القفر على من يمكنني التحدث معه بالارمنية
ـ وكيف عرفت انني ارمني؟
ـ بطاقة التعريف المتعلقة بالمؤتمر تتحدث عنك وتقول لي انك آرا سوفاليان
ـ نعم يا سيدي انا آرا سوفاليان…ولكن اسمك تركياً وليس أرمنيا وكنيتك جلال أوغلو؟
ـ نحن من ارمن استمبول وعلى الرغم من انه تم اجبارنا على تغيير اسمائنا فلقد بقينا مسيحيين انا درست طب الاسنان في استمبول وتخصصت في المانيا وعدت ولديّ عيادة كبيرة في استمبول.
ـ ما هي أحوال الارمن في استمبول وكيف تعيشون وما هو عددكم؟
ـ أحوالنا عادية وعددنا خمس وسبعون ألف وهذا بعد مئة عام من الابادة تقريباً ولك ان تتخيل كم كان عددنا منذ مئة عام، وعددنا ينقص ولا يزيد بسبب الهجرة، ونعيش مع الآخرين بشرط ان لا نظهر اي انتماء لغير تركيا، فهم يعتبروا اننا اتراك وان هناك تكافؤ في الفرص وفي الحقوق وفي الواجبات وهذا غير صحيح، لا بد انكم قد علمتم بما حدث لهرانت دينك العام الماضي.
ـ نعم لقد علمنا
ـ عند أول مناسبة يكشر التركي عن انيابه، والآن يتحفون العالم الحر بأجمل ما عندهم على أمل الانضمام الى الاتحاد الأوروبي… آسف مضطر الى ان اودعك يجب علي ان التحق بالوفد التركي….آسف أرجو ان لا تتحسس من هذه الكلمة (الوفد التركي).
ـ لا يا سيدي انا لن اتحسس منها بالمطلق لأنه وعمّا قريب…إن شاء الله سأراك مع الوفد الأرمني.
نظر الرجل اليّ وقد اغرورقت عيناه بالدمع ومضى يحمل السامسونايت خاصته دون وداع.

***

هذه الحالة أعتقد انها هي القاعدة وغيرها هو الاستثناء، لقد تم خطف كل البنات الصغيرات من الأرمن وتم بيعهن في سوق النخاسة، وجرِّبَ بهن كل كا أمكن تجربته وهذا غيض من فيض.

جئت الى هنا وأنا أعرف انها زوجة حيدر بك وكانت صغيرة وجميلة جداً هي في الرابعة عشر وانا في الثامنة، وكانت أحياناً تحدثني بالأرمنية فأسألها هل غيرتي دينك وتزوجتي من هذا الرجل فتجيبني أنت صغير ولا تعرف شيء، وصار فيما بعد يضربها ويعاقبها، ، وصار يقدمها لأصدقائه في حفلات المجون التي كان يحييها هنا في القلعة، وعرفت فيما بعد انها مرضت بالزهري ولم أكن أعرف ما هو هذا الزهري، وتدهورت صحتها كثيراً وكانت حامل وتتقيأ كل ما أقدمه لها من طعام أو شراب، ولم يهتم لها حيدر بك فلقد حجرها وتوقفت عن تناول الطعام فعرفت أنها ستموت، وقد عافها حيدر بك طيلة فترة مرضها كما يعاف المرء الكلب النافق، وبعد أن ماتت أمر بدفنها خلف القلعة، وذهبت لأصلي على قبرها ووضعت بعض الزهور فعلم حيدر بك ورماني في السجن

***

الكثيرون الكثيرون هم ضحايا الابادة المرعبة، وهم جميعاً من أصول أرمنية، ويجري في عروقهم الدم الأرمني ويتمردون ولكن لا يعرفون ضد من، ويحبون أبناء قوميتهم الذين لا يبدون أي محاولة لفهم مشكلتهم ومساعدتهم أو على الأقل التقرب منهم…وقد حدث لي شيء مشابه منذ 51 سنة أي في العام 1964 ومع أن هذا الشيء المشابه لا يعتبر نقطة من بحر عدم التفاهم الموجود ما بين الأرمن الذين خضعوا لظروف قاهرة أدت من شدتها الى ترك لغتهم ودينهم، والأرمن الذين حافظوا على لغتهم ودينهم، وهذه النقطة هي الآتية:
في العام 1964 انتقلت من مدرسة راهبات الأرمن الكاثوليك الى مدرسة آليشان، وكان المدير في مدرسة آليشان هو الأب ميسروب وهو فرنسي من أصل أرمني، وكان وحش في ثوب كاهن، وفي الباحة أحب أن يفرز الطلاب الأرمن الكاثوليك الناطقين بالعربية عن أندادهم الذين يتحدثون الأرمني، فأشار لي بإحتقار ان أخرج من صف الأرمن وأقف مع الارمن الناطقين بالعربية وأسماؤهم عربية، فاعترضت المعلمة فرانسواز وهي ايضاً فرنسية من أصل أرمني وقالت للأب ميسروب هذا الولد أرمني واسمه ارمني فلماذا استبعدته وبهذه الطريقة، فأجابها أمه جانيت خوري وهي ليست أرمنية وبالتالي فهذا لا فائدة منه…قالت الآنسة فرانسواز سيكون في صفي ولن أتخلى عنه…والآن وبعد هذا العمر هناك سؤال يراودني…ترى من منّا خدم القضية الارمنية أكثر أنا أم الحثالة مسروب هذا؟ الجواب بديهي ومعروف انها الآنسة فرانسواز التي ساهمت بأن تجعل مني أرمني بشكل مختلف والتي لولاها …لكنت لا أعرف حرف واحد من الأبجدية الأرمنية.

خمسٌ سبعون ألف أرمني هم البقية الباقية من الارمن بعد مرور مئة عام على الابادة المروعة، ولنفترض أن كل أرمن استمبول الخمسٌ وسبعون ألف، خرجوا في جنازة هرانت دينك، فمن هم هؤلاء البقية؟

لقد خرج في جنازة هرانت دينك مليون انسان، فإذا كان عدد الأرمن المشاركين هم خمسٌ سبعون ألف فمن هم التسعمائة وخمسٌ وعشرون ألف الباقون؟
من هؤلاء؟
من هؤلاء؟
من هؤلاء؟

الجواب معروف هؤلاء هم أصحاب المعاناة التي لن يفهمها أحد ضحايا وأولاد ضحايا وأحفاد ضحايا المجزرة المروعة التي طالت الأرمن في 24 نيسان 1915.

هؤلاء أصحاب الياقات المنشّاة الذين حملوا النعش، هؤلاء أصحاب القمصان السوداء الذين ساروا في مليونية هرانت دينك، هؤلاء أصحاب اللافتات التي كتب عليها كلنا هرانت دينك، بعضهم نسوة محجبات، وشباب يعرفون انه قد بقي من دينهم ذخيرة وصورتين وعلبة فضة، هؤلاء هن أقرباء وصديقات ييراز هيكيميان اللواتي يبحثن اليوم، عن وطن بديل، ووطنهم موجود، ولغة بديلة ولغتهم موجودة.

هؤلاء هم مصطفى دنكجيان وأصدقاء مصطفى دنكجيان في الاردن وعمّان ومعان والقدس الذين تفرقوا وضاعوا في جنبات الارض الأربعة…ولا تربطهم إلاّ ذكرى واحدة وهي فرن جدهم الأكبر في مدينة ديار بكر وبالاحرى ديكراناجيرد المخضبة بدماء الارمن.

هؤلاء هم أصدقاء الأخوين يعقوب من تل عفر في العراق التي تتعرض اليوم الى هجوم وحشي ولا بد انهم قد تركوا تل عفر ويمموا صوب الغرب هم وكل أهل الموصل من قبلهم.
هؤلاء هم: الصحفي تيميل دميرير وأصدقائه الشرفاء وأساتذته الذين تعلم منهم والذي كتب مقالا فى 12 إبريل 2012 قال فيه «أتمنى أن يكون هناك مليون ونصف المليون تركى صالح ومتيقظ الضمير ويقف معلناً إدانته لإبادة الأرمن». ولم يبتلع أردوغان المقال وأحال «دميرير» للمحاكمة.. لكن «دميرير» وغيره من المناضلين الأتراك أعداء الأردوغانية العثمانية لا يزالون يناضلون من أجل انتزاع اعتراف تركى بالمسؤولية التاريخية عن إبادة الأرمن. وبالعودة للتاريخ فإن مذبحة متوحشة بدأت فى 1895 بعد تحريض السلطان العثمانى بأن الأرمن المسيحيين أعداء للإسلام وقتل فيها 000ر300 أرمنى.. ومع سياسة التتريك بدأ مخطط وحشى فى 24 إبريل 1915 لإبادة الأرمن. وكان الضحايا مليونا ونصف المليون.
وأضاف دميرير قائلاً: «أنا لا أدعو أى إنسان لارتكاب جريمة لكن ما أريد قوله إن الأفكار لا ينبغى ولا يمكن تقييدها، لقد تعلمت من مفكرين أتراك مثل إسماعيل بشيكجى، وفكريت باسكايا وباسكن أوران (وكلهم أكاديميون أتراك سجنوا أو حوكموا بسبب أفكارهم)، تعلمت منهم أن حرية الفكر يجب أن تنتصب شامخة معلنة، كانت هناك جريمة إبادة للأرمن.. هذه أفكارى فتعالوا وحاكمونى من جديد».

هؤلاء هم:
المفكرون المتنورون الأتراك وآثارهم ترشدنا اليهم وهذا غيض من فيض.

ذكرت جريدة “مرمرا” أن حوالي 90 مفكراً وأكاديمياً تركياً وقعوا على عريضة في حملة تواقيع طالبوا فيها بجمع الكتب المدرسية التي تزرع الحقد تجاه الأرمن وشعوب أخرى، من المدارس التركية، والاعتذار من الطلاب الأرمن لما تحتويه الكتب من أكاذيب ونفاق. وقالوا ” إن تلك الكتب ينبغي أن تجمع وتتلف، فنحن ندخل عام 2015، وهذه طريق تأخذنا نحو السلام والمصالحة”.

وكان المؤرخ التركي تانير أكتشام أحد هؤلاء الموقعين على العريضة، وقد تناول القضية الأرمنية والتحريض على الارمن في الكتب المدرسية وتزوير التاريخ ضمن مقالاته السابقة، وقال: “هذا يذكرنا كم هو ضروري تحضير مناهج دراسية تشجع على الرغبة في الحياة المشتركة والصداقة بين المجتمعات العرقية والدينية، ومن الضروري ألا تتناول الكتب المدرسية الحقد والكذب والنفاق. ينبغي أن نكون شفافين تجاه التاريخ فهو الكفيل للصداقة والمصالحة. فهذه العريضة هي دعوة ونداء لصالح الكتب المدرسية”.

ومن بين الموقعين: أحمد ألطان وأحمد هاكان وعايشة كونايسو وعايشة هور وباسكين أوران وأورهان باموك وحسن جمال وتانير أكتشام وموراد بيلكي وخليل بيركتاي وآخرون.
هؤلاء هم رصيدنا في الوطن المحتل…هؤلاء هم أملنا وهم القوى الفاعلة المساعدة والمؤثرة والتي ستضاف الى القوى الاساسية لتصبح في مجملها أشد تأثيراً وفاعلية…كل هؤلاء ساروا في مليونية هرانت دينك التي كان فيها عدد الأرمن لا يتجاو الخمسٌ وسبعون ألف…والبقية هم هؤلاء.

تركيا لن تعترف طواعية وستتمادى في غيّها ولكن الأمل كل الأمل….

ـ في كل الارمن في جهات الأرض الأربعة وأولئك الذين رحلوا الى العالم الثاني الذين إذا توجهوا من أمكنتهم الى قبلتهم آراراد تختنق العبارات في حلوقهم ويجهشون بالبكاء.
ـ الأمل كل الأمل في اولئك الذين إن مروا مرور الكرام في طريق من طرق الابادة أو مروا أمام مقبرة فيها رفاة الأرمن أو نصب تذكاري يحمل ما يحمل من عاذابات الارمن والظلم الذي لحق بهم، تدمع قلوبهم قبل عيونهم لأن هذا يذكرهم بأن العالم الحر قد أدار ظهره لهم ولشعبهم ولقضيتهم.

ـ الأمل كل الامل في اولئك الذين لا زالوا يحييون ذكرى 24 ابريل، ذكرى اول مجزرة مروعة وأول تطهير عرقي قضى على شعب بكامله ولم يبق منه إلاّ القليل، على الرغم من مرور مئة عام على هذا الحدث الجلل.

الأمل كل الأمل في هؤلاء الذين كانوا مادة هذه المقالة التي كتبت بمناسبة المئوية، هذه المقالة التي أجابت على السؤال (من هؤلاء) هؤلاء الذين نفخر بهم ونعتز بهم ونقول لهم، إن أعظم رد على الابادة هو تحطيم ما هدفت اليه، والعودة الى الجذور…وعلى كل المخلصين أن يضعوا يدهم بيد هؤلاء لمحو آثار الابادة البعيدة لطالما أن الآثار القريبة تحققت بغير رضانا، سنعود جميعاً الى الحب الذي يجمعنا ولن ننسى اننا مسيحيون قبل روما عاصمة المسيحية، سنعود الى اللغة التي أحببناها والموسيقى الجميلة التي خصّنا الله بها والباقي سيأتي تباعاً، فالاعتراف لا زال بعيد المنال، وبالتالي يجب ان نرفع شعاراً جديداً بعد المئوية وهو…(لقد بدأت الإبادة اليوم).

آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني

scroll to top