11428.jpg

حسابات الميدان تبدد آمال التسوية في سورية

حسابات الميدان تبدد آمال التسوية في سورية

حسابات التسوية السياسية السورية التي عقدت على جنيف 3 في جولاته الثلاث المنصرمة لم تتطابق أبداً مع بيدر ميدان المعارك التي تحدد على الدوام المسار التفاوضي وسقفه لكل فريق كإستراتيجية مرسومة بعناية تلعب المصالح الإقليمية والدولية دوراً بارزاً في رسم ملامحها وتوجيهها بما يناسبها.

ويبدو أن الجولة المقبلة من جنيف، والمتوقعة قبل انقضاء الشهر الجاري، منوط التئامها بتفاهمات إقليمية ودولية يسبقها تصعيد ميداني كالعادة في كل جولة بغض النظر عن تكاليفها المرتفعة من الدم والدمار والخراب، وما شهدته وتشهده حلب، مثال على ذلك مما يخيب الآمال المرتجاة بإيجاد حل يضع حداً للصراع الدائر منذ خمس سنوات وشهرين ولا يلوح في الأفق ما يشي بتسوية يتوافق عليها الجميع على الرغم من مضي أربعة أشهر على برنامجها الذي مدته 18 شهرا وسبق أن كشفت عنه واشنطن على أنه نتيجة مفاوضات مع الراعية الثانية موسكو.

ويظل للميدان كلمته التي يمليها على الملف التفاوضي بدليل وقف المرحلة الأولى من جنيف 3 بفك الجيش العربي السوري الحصار على بلدتي نبل والزهراء وانسحاب وفد المعارضة المنبثق عن مؤتمر الرياض من مفاوضات مرحلته الثالثة لتحسين شروطه التفاوضية والتي تمت بالسيطرة على بلدتي العيس وخان طومان الحيويتان في ريف حلب الجنوبي خلال فترة سريان اتفاق “وقف الأعمال العدائية”، المتفق عليه منذ 27 شباط الماضي.

وبغض النظر عن جدية تطبيق أو الالتزام بمقررات وتوصيات مجموعة الدعم الدولية لسورية في اجتماع فيينا في 17 الجاري ومدى مقدرة الأطراف الفاعلة في الأزمة على ممارسة نوع من الضغط على الوفود المفاوضة للاجتماع والولوج بجدية في العملية السياسية، يظل الأمل ضعيفاً في التوصل لخريطة طريق تنهي معاناة الشعب السوري مع رغبة وإصرار المتصارعين في ترجيح كفة الحسم العسكري على ما دونها من فرص الحل.

والحال أن الجهود المشتركة الأمريكية الروسية بتحقيق قفزة كبيرة في المفاوضات تضع جميع المتفاوضين على سكة القطار الصحيحة لتسير عرباته إلى آخر محطة في التسوية السياسية المنشودة بشكل تلقائي، وذلك خلال حد أقصاه نهاية شهر آب المقبل قبل أن تنشغل الإدارة الأمريكية في انتخابات الرئاسة بحلول تشرين الأول القادم، يصدم بمساعي سعودية تركية تعوّل على كسب رهان تقطيع وتضييع الوقت حتى انقضاء الانتخابات لاستشفاف طريقة تعامل الإدارة الجديدة مع النزاع السوري، الذي راح يؤرق دول العالم ولم تعد تداعياته تنسحب محلياً أو على دول الجوار، بغية تحسين الظروف الميدانية لفصائل المعارضة المسلحة المدعومة من قبلها من دون إغفال دور تزويدها بالأسلحة النوعية مثل الصواريخ المضادة للطائرات التي من شأنها تحييد سلاح الطيران عن المعارك لخرق التفوق العسكري للجيش السوري وفق ما دعي بالخطة “ب” الأمريكية والتي ذهب بعض المحللين العسكريين إلى أنها بوشر بتطبيقها من دون بلورة خطة روسية موازية ومضادة لها بهدف إقناع فريقي الصراع بجدوى الاحتكام إلى جنيف فقط.

لقد أمل السوريون خيراً بالهدن المترنحة والهشة لوقف إطلاق النار والتي خفضت مستوى الأعمال القتالية بشكل ملموس وتراجعت خروقاتها بما أنقص من أعداد الشهداء المدنيين لكن السعي للتسليح اللوجستي خلالها ثم شن هجمات لكسب أراض جديدة أطفأ الشمعة الوحيدة القادرة ربما على حقن الدماء وأشار بوضوح إلى عجز الراعيين الأمريكي والروسي عن الوفاء بتعهداتهما بجعل الهدن مفتوحة لتمهيد الأرضية المناسبة للاستمرار في مفاوضات العملية السياسية.

كما ضيعت الدول الفاعلة في الملف السوري فرصة الإفادة من الانسحاب الجزئي للقوات الروسية من سورية، بالتزامن مع جولة مفاوضات جديدة في جنيف، والذي جاء لإنجاز اتفاق سياسي بعد إعادة التوازن للميدان وليبقى الميدان هو السبيل الوحيد والدائم لإقناع طرفي الصراع بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع استحالة الحسم العسكري لأي منهما مهما طال أمد الأزمة وحجم الخسائر.

ومن المؤسف أن تدفع حلب لأهميتها الكبيرة في كل المجالات ثمن الرجوع إلى المفاوضات على اعتبار أنها مفتاح الحرب والسلم في سورية وحتى في دول الجوار والدول الوازنة إقليمياً بحيث يكسب من يسيطر عليها النزاع لمصلحته من دون الأخذ بعين الاعتبار ما آلت إليه أحوال سكانها واقتصادها ومقدرتها على المزيد من الصمود في وجه تكالب الدول على النيل منها. وحقيقة الأمر أن حلب تشهد منذ انتقال الصراع إليها في تموز 2012، على الرغم من رغبة أبنائها بالسلم، حال من التوازن الستاتيكي الميداني بموافقة ضمنية من كل الأطراف الفاعلة بما يحول دون استفراد فريق بكل مقدراتها ولو من طريق تفاهم إقليمي ودولي لم تظهر تفاصيله إلى العلن ومع ذلك يراهن من يراهن منهم على ضمها إلى الخريطة العسكرية الميدانية للفريق الذي يدعمه وكأنها تدفع ضريبة أهميتها الإستراتيجية التي جلبت إليها كل الغازين منذ الألف الثالث قبل الميلاد.

باختصار، يمكن القول أن احتمال انطلاق مسيرة جنيف قائمة لتحقق جولاتها أرقام قياسية لكن يظل الفعل في إنجاز تقدم ملحوظ لا شكلي في العملية السياسية رهن لانعكاسات الميدان حتى يسقط السوريون رهانهم على الخارج في إدارة أزمتهم التي لن يطفئ نارها سوى أراداتهم بوقف الاقتتال وتقديم التنازلات المؤدية للقاء الفرقاء في منتصف الطريق وقناعتهم بأن الحل السياسي وحيد وأهم بكثير من خيار المضي بالحرب إلى ما لا نهاية ومن دون جدوى.

بقلم: ليون زكي | خاص لموقع خبر أرمني

scroll to top