9970.jpg

الأرمن.. من نكبتهم كشهداء إلى نهضتهم كقديسين!

ميسون أسدي، كاتبة ذات باع طويلة في مجال القصة القصيرة والرواية وأدب الأطفال، وأصدرت مجموعات قصصية متنوعة المواضيع ومتعددة المجالات. وفي كثير من قصصها تجاوزت حد الجرأة والصراحة لكي تعرض القضايا التي يواجهها الجمهور ويخجل من الحديث عنها، أو أنه يتستّر عليها لئلا تنكشف حقائقها على الملأ.

وصفها النقاد بالكاتبة التي أشغلت الرأي العام بمواضيعها التربوية والاجتماعية والنسوية، خاصّة تلك التي لم يجرؤ المربُّون والمربِّيات على تعاطيها في المدارس أو حتى في البيوت. نشرت ميسون إنتاجها الأدبي في البلاد والخارج، ولقيت إبداعاتها إقبالًا واسعًا، بحيث أدرجت مواضيعها في الندوات والأيام الدراسية.

ومن مؤلفاتها التي كانت محط اهتمام القراء والنقاد على حدٍّ سواء، رواية “مثلث توت الارض” و”كلام غير مباح” و”عن بنات افكاري” و”لملم حريم” و”الحب كافر” و”حكاوي المقاهي” و”خبز العسكر” وعشرات كتب الأطفال، التي وضعتها في قوالب سردية جديدة، ومضامين إبداعية مميزة. واهتم الأدباء والنقاد بتقييم أعمال ميسون الأدبية، ولفتوا إلى مميزات هذا الأدب وطريقة طرحه أمام القراء. ومن هؤلاء: د. حبيب بولس. أ. د. محمود غنايم، د. ثائر العذاري، د. دوريت غوتسفيلد، وجميل السلحوت، وزياد جيوسي وآخرون.

أمّا “تراحيل الأرمن” الذي نحن بصدده، فهو عبارة عن سردية لشعب من الشعوب العديدة في العالم، التي اجتازت النكبات وشهدت الحروب والويلات، وعرفت المصائب والاضطهادات.. وهذه الشعوب قاومت الطغيان وكافحت الظلم والاستبداد، ولم تخضع لنير الاحتلال والاستعباد.

وها هي ميسون أسدي تضع بين أيدينا رواية جديدة، نستشف منها سيرة شعب، لنطّلع على معيشة أبنائه، وننظر من خلالهم إلى هذا الشعب الأرمني الأبيِّ، وهو من الشعوب التي ذاقت الأمرّين لا لسبب إلّا لأنّها أقلّيّة عرقيّة وقعت تحت سلطان الطغيان. واستطاع هذا الشعب أن يلملم أشلاءه، وينفض عنه غبار الزمن، وينهض من جديد لينطلق عبر التاريخ كشعب جدير بالحياة والحياة جديرة به.

وإذ تفرَّق الأرمن وتشرَّدوا في أنحاء الدنيا، كان يحدوهم الأمل الدائم بأمرين، الأول العودة إلى أرمينيا الوطن الأم. والثاني الإثبات للعالم، حيث وطئت قدم الأرمني، أنه قادر على العمل وبناء حياته وحياة مجتمعه في كلّ مكان، فكم بالحريِّ في أرمينيا التي يحنّ إليها دائمًا؟

إن “تراحيل الأرمن” تتحدث عن شعب يستحق الحياة بكرامة واستقلال، ويحافظ على ماضيه ويخلّد تراثه وموروثاته. وشعب يحق له العيش الكريم على أرضه وترابه، ضمن الحدود الآمنة والوطن الحبيب. وشعب يسعى لتحقيق طموحه وتلبية آماله وبناء مستقبله.

واليوم، وبعد مائة عام بالتمام على هذه المذبحة الوحشية، تأتي الكاتبة ميسون أسدي، لتضع قصتها “تراحيل الأرمن” في رواية ذات أبعاد محلّيّة وزمانيّة، وتنسكب في قوالب عالميّة وإنسانيّة.

إن القوة الابداعية الكامنة في هذه الرواية تتركز في سرد وقائع زمنية طويلة جدًا، موغلة في القدم، من خلال حدث واحد امتد فقط ليوم واحد بنهاره ومسائه. واسترجعت الكاتبة بشخصياتها وأحداث روايتها المشاعر والعواطف الإنسانية التي تنتاب كل من مرَّ بمثل تجربة الأرمن، وهذا بذوق رفيع وحس مرهف لمتطلبات الأحداث وما تقتضيه شؤون الساعة. وهذه الرواية تشكل خطوة إلى الأمام بقدر من الصدق وقوة الأحداث والطرح الجريء لقضية من أهم قضايا شعب يطمح إلى الحياة الإنسانية الشريفة.

ترسم ميسون شخصيات هذه الرواية من الواقع الذي تعيشه مع أهالي حيفا إلى جانب بضع عشرات من أبناء الأرمن، وهم يكافحون من أجل لقمة العيش، فيزاولون أعمالهم المختلفة ليثبتوا أنهم جزء من هذا المجتمع الحيفاوي، المركّب والمعقّد، والمؤلّف من عدة فئات وشرائح دينية وقوميّة واجتماعيّة وحتّى اقتصاديّة. فترى الأرمني يعمل في المصنع وورشة تصليح السيارات والنجارة والحدادة والنقل والخدمات المنزليّة وغيرها، وكأنّه يحاول أن يلتقط أي فرصة وينتهز أي مناسبة، لكي يحصل على راتب من عرق جبينه وكد ساعده، فيصرف بعضه على معيشته، وبعضه على خدمات أبناء مجتمعه، وبعضه على مساعدة أبناء الأرمن المنتشرين في أماكن أخرى من البلاد.

ومن ناحية ثانية يتطلع الأرمني، في شخصيات “تراحيل الأرمن” إلى الأرض كلِّها كموطن له، ويعتبرها مستقرًا يعيش فيه، طالما جعله تنقُّله وترحاله شخصية العالم، وأن العالم يثق به وبقدراته. لأنّ الأرمن لا يعيشون في الشرق الأوسط فحسب، بل في أصقاع المعمورة ودول العالم كلّه. وسرعان ما يتواصل هذا الأرمني مع سائر أبناء الأرمن، ويجدهم يستقبلونه ويرحّبون به ويتعاملون معه كالقريب، والأخ والصديق.

وتنتقل ميسون في “تراحيل الأرمن” بين الأجيال السابقة والحاضرة والقادمة، فتعرض الأجداد الذين كافحوا في حياتهم من أجل معيشتهم، حيث بلغ بهم الترحال، ولقنوا أبناءهم المهن المتنوعة، والأعمال والأشغال، التي يضمنون بواسطتها حماية حياتهم، وصيانة عائلاتهم. والأبناء الذين ورثوا هذه الأنماط الحياتية والنهج السلوكي، كل فرد إزاء الآخر، وكلهم معًا إزاء سائر فئات المجتمع. ولا زالوا ينقلون موروثاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، عن طريق ممارستها إلى الجيل القادم.

ويختلط أبناء الأرمن بسائر شرائح المجتمع، بحياتهم العادية، المعيشية منها والاجتماعية، وبالتزاوج المختلط، رغم أنهم يفضلون زواج بناتهم لأبناء قومهم، ولكنّهم يقدرون هذه المجتمعات ويتعايشون معها باحترام متبادل. وحتى أولئك الذين يتزاوجون مع سواهم، يحرصون على اتباع عادات الأرمن، والحفاظ على تقاليدهم. وهم يثبتون كمجتمع قومي، رغم تفرقهم الجغرافي، التفافهم حول بعضهم وعدم انصهارهم في المجتمعات الأخرى.

وأرى نفسي واقفًا صفًّا واحدًا مع الأرمن لأجدد المطلب المُلحّ بالسماح للأرمن بالعودة إلى بلادهم بحرّيّة، وكذا بالسماح لنا كعرب فلسطينيين بالعودة إلى قرانا المهجرة، وإعادة إعمارها، والسكن فيها بكرامة، كإقرث على سبيل المثال.

وهذه التراحيل تعبِّر تعبيرًا صادقًا عن حالات التشرّد والتنقّل التي اجتازها الأرمن على المستوى الفردي والجماعي، وعلى المستوى الشخصي والعام، وجاءت لتبرز أكثر من حالة ترحال، وأكثر من حالة ترحيل، إن كانت قسريّة أو إراديّة.

إن “تراحيل الأرمن” تأخذ القارئ عبر زمكانية جذابة بأسلوبها، ولطيفة بعرضها، وجميلة بشخصياتها، وتلقي الضوء على حياة أبناء الأرمن الخاصة مع الإسقاطات الكثيرة التي تثير التعاطف من جهة، والتماثل المقارن لسائر شخصيات هذا المجتمع، في فئاته وشرائحه وأطيافه وألوانه وقومياته. وترغم القارئ على إطلاق أفكاره، فتارة يضع نفسه موضع مقارنة لأوضاعه مع أحوال الأرمن، وطورا يجد نفسه قلقًا وممتعضًا من الظلم وما يخبئه المستقبل من كوارث ونوائب مماثلة.

إن قدرة الكاتبة ميسون أسدي على وضع هذه الرواية بأسلوبها واستعراض شخصياتها تنقلنا إلى أعماق هذه الشخصيات، وسبْر أغوارها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وتقودنا إلى متابعة تحركات نماذج من أبناء الأرمن بدقّة، وتضعنا في خضمّ الأحداث الحزينة أحيانا والسعيدة أحيانا أخرى.

إن “تراحيل الأرمن” تجعلنا ندرك أننا أمام قاصَّة متميزة، وتحمل في قلبها وفكرها، في كل عمل جديد لها، رسالة موجهة إلى العديد من الناس، وتحثنا إلى ضرورة شد الهمم، والانبعاث من جديد، في نهضة وانطلاقة نحو مستقبل أفضل.

بقلم: نايف فايز خوري | نقلا عن صوت الوطن

scroll to top