8780.jpg

مفهوم القومية التركية (الطورانية) وجرائم الابادة.. بقلم: عضيد جواد الخميسي

لفهم القومية التركية وكيفية إسهامها في قيام الإبادة الجماعية تجب مقارنتها مع العثمانية والنزعة الإسلامية .

في القرن التاسع عشر كانت العثمانية هي الأيديولوجية المهيمنة في فترة الإصلاح أو ” عهد التنظيمات ” ولقد حافظت العثمانية على وحدة أراضي الإمبراطورية عن طريق السماح للأقلّيات بالاستقلالية وبتقديم بعض الإصلاحات التحرّرية لجميع الأتراك العثمانيين بغضّ النظر عن انتمائهم الديني والقومي في ظلّ ” نظام المـّلة ” . ولقد وجدت هذه الفكرة أرضاً خصبة في قبولها عند بعض الأقلّيات كالأرمن ، وبالأخص حزب الطاشناق ، والجناح التحرّري في جمعيّة ” تركيا الفتاة ” بقيادة الامير صباح الدين ( ابن شقيقة السلطان عبد الحميد وهو شركسي الاصل).

لقد نجح السلطان عبد الحميد في محاولة الحفاظ على الإمبراطورية بالدعوة إلى الإسلام التي راجت شعبياً حتى بعد ثورة 1908 . ولكنّ نجاح الثورة وانفصال أقاليم إسلامية ، وخصوصاً في ألبانيا ومكدونيا ، بدّد الأمل في أن الإسلام سيخدم وحدة الإمبراطورية ، ثمّ تلاشى الحكم الإسلامي عند قيام الثورة العربية .

لقد وقف العرب إلى جانب بريطانيا، وهاجموا حكامهم الأتراك ، وأصبح واضحاً أن الوحدة الإسلامية ليست سوى سراب ، وأنّ الصيغة الإسلامية لا قيمة لها كمبدأ أساسي . وهنا يقول وزير الدفاع ” أنور باشا “: ( إن هذه البدعة الخيالية المخيفة التي يسمّونها الأمّة الإسلامية ، والتي ظلت سدّاً يحول دون تقدّمنا وتحقيق الوحدة الطورانية ، في طريقها إلى الزوال والتفكّك ).

إذاً فالمذهب الطوراني يتعارض مع ما تمثّله الدعوة الإسلامية . ولذا فقد عارضه شريف مكّة في 5 آذار سنة 1917 ودعا مسلمي الإمبراطورية العثمانية ، وخاصّة الجيش ، للانتفاض ضدّ ما سمّاهم [ جماعة الطورانيين الكفّار] .

لقد أثبتت السياسة التركية في ما بعد تناقضها والرسالة الإسلامية ، فما مقرّرات مصطفى كمال ( أبي الأتراك ) بترجمة القرآن إلى التركية وإلغاء الحجاب ومنع المظاهر الإسلامية واستبدالها بالمظاهر الغربية ، سوى دليل واضح على العدوانية التركية حيال الإسلام . في بداية سنة 1914 اتجهت حكومة [ تركيا الفتاة ] سريعاً نحو القوميّة الطورانية وتخلّت عن العثمانية والإسلامية .

لقد بدت القومية التركية كعقيدة متمرّدة لها تعاليم ثورية ومبادئ محض تركية ، عبّر عنها (( زيا كوكالب )) بما يلي:
( إن جميع الأفراد الذين يتكلمون اللغة التركية ويتقاسمون حضارة واحدة ويتلقون ثقافة واحدة ولهم دين واحد مشترك ، يجب أن يتحدوا في وطن سياسي واحد يضم القوقاز الروسي وآسيا الصغرى وكازان وكريما ، وجميع الأقاليم التي لها نفس الخلفية العرقية ) .

نظرياً ، طمحت الطورانية إلى أن تصبح الإمبراطورية العثمانية ولكن بدون مشاكل الأقلّيات ومضايقاتها . كانت الغاية الرئيسية التي تصبو اليها هي زيادة الشعور القومي عند الأتراك العثمانيين ، والعمل على إضعاف هذا الشعور عند الأقلّيات ، وخصوصا الأرمن، وإشعارها ( أي الأقلّيات ) أنّه لا مكان لأفرادها في العيش ضمن حدود الدولة الجديدة . قد تكون الأسس النظرية لـ ( زيا كوكالب) الركائز الأساسية التي بُنيت عليها هذه القومية ورسمت معالمها واستعملت في النضال التركي . وهنا يقول [ يوريل هايد ] الذي كتب سيرة حياة زيا كوكالب مايلي:

(( لقد وضع كوكالب في كتاباته أسس القومية والدولة التركية الحديثة . هذه الدولة التي تحقّقت أخيراً على يد مصطفى كمال . وبعيداً عن تأثيره الفكري في طلعت باشا وأنور باشا ، كان كوكالب عضواً في جمعية الاتحاد والترقّي ، عُينّ في مجلس الشورى وطُلب منه التحقيق في شروط الاقلّيات ، وخصوصاً الأرمن ، وإيجاد الحلول الملائمة لحلّ مشاكلهم . لقد وافق الحزب على قسم كبير من اقتراحاته ، وقام بتنفيذها خلال الحرب العالمية الأولى )).

في سنة 1919 دخلت قوّات الحلفاء القسطنطينية، ألقت القبض على كوكالب وعلى عدد من أفراد لجنة الاتحاد والترقّي . وعند محاكمته سُئِل عن دوره في المذابح ، فرفض الاعتراف بأنّه كانت ثمّة مذابح ، بل اعتبرها حرباً بين الأتراك ( الذين طُعنوا في الظهر ) وبين الأرمن الذين قُتلوا في هذه الحرب !! . ولكنه اعترف بدون تردد على موافقته على عملية ترحيل الأرمن وإخراج الأقلّيات من الأرض التركية.
وفي محاولة تحديد أفكار كوكالب يقول هايد:

(( لقد حاولت الجمهورية التركية تحقيق فكرة كوكالب في تجانس الأمّة التركية الواحد . لقد وجد كوكالب في التاريخ التركي لا في التاريخ العثماني عصراً ذهبياً سبق قدوم الإسلام . لقد مجّد أعمال البطولات العسكرية في الغـزاة الأتراك أمثال أتيلا ، وجنكزخان ، وتيمورلنك ، وهولاكو وغيرهم . لقد شدّد على الصلة القومية والتعاليم الأخلاقية في الشعب التركي والتي منها حسن الضيافة والتواضع والإيمان والشجاعة والاستقامة وحبّه القوي لأفراده وعدم اضطهاده للشعوب التي يقهرها )).

ويعرف كوكالب الأمة بما يلي:
(مجتمع يتألف من شعب يتكلم لغة واحدة متحد في دينه واخلاقه ، وأن الجمالية مثله الأعلى) .

ظاهرياً ، هذا التعريف غير مؤذٍ إلى حدّ ما ، ولكنّه يتعارض مع مضمون التعدّدية العثمانية على الصعيد الديني والتاريخي والسلالي ، ولذا ، أدّى إلى عـزل الأرمن والسريان وبقيّة الأقلّيات عن كيان المجتمع التركي. ولم يتردّد “كوكالب” في تصوير الأقلّيات على أنهّا جسم غريب حين قال:
( إنّ الأغريق والأرمن وبقيّة الاقلّيات هم أتراك الهويّة فقط ، لا في الانتماء القومي التركي، وسيبقون عضواً غريباً في جسد الأمّة التركية) .
يقول هايد:

(( ليست الأمة بالنسبة إلى “كوكالب” تشييد بارع في التحليل النفسي ، بل قاعدة أساسية للسلوك الأخلاقي . وأنّ العطاء دون نهاية هو عطاء الأمة، وفي سبيل بقائها كلّ شيء محتمل ومباح)) .

إنّ أبا القومية التركية في موافقته ، ودون تردد، على ترحيل الأرمن والسريان والأقليات الاخرى وإخراجهم من أرض الوطن ، ثمّ استبعاده الأقلّيات من اهتماماته الأخلاقية ، يؤكّد أنّ مفهومه للقومية ومنطلقاته الأخلاقية مختلفة كثيراً عن العثمانية التي وإن كانت قد قامت بمجازر 1894-1896 ، إلاّ أنهّا منحت الأقليات مكاناً في الإمبراطورية وحدّدت بعض السلوك الأخلاقي والواجبات السياسية لجميع الملل وحتى للحكّام أنفسهم . وعلى نحوٍ آخر لقد عزلت صيغة “ الأقلّيات “عن الأتراك ووضعت الخطوط الدقيقة للقضاء عليهم . ولعلّ أكبر مثال على نظرة القوميين الأتـراك للأرمن والأقلّيات ومدى مفهومهم للأخلاقية التي تلقّوها من تعاليم قوميّتهم ، هو ما قاله طلعت باشا للسفير الأمريكي [هنري مورجانثو] حين سأله الأخير : لماذا لم يُفصل الأرمن الموالون عن الأرمن غير الموالين ؟ ، فأجاب:

( لقد آلمنا لعدم القيام بالفصل بين البريء والمذنب ، والحقيقة أنّ ما نسمّيه البريء اليوم قد يكون المذنب غداً)..!!

والأخطر من هذا التصريح الذي يكشف عن أخلاقية طلعت باشا ، كتب “جان مورجانثو”:
((( في أحد الأيام التمس منيّ طلعت باشا طلباً كان أغرب ما سمعته في حياتي . عدّة شركات للتأمين على الحياة ، ومنها شركة نيويورك ، قد قامت ، وعلى مرّ السنين ، بأعمـال موفّقة وناجحة مع الأرمن . [إنّني أرغب] يقول طلعت هنا ” في أن تقنع ,,إذا استطعت,, هذه الشركات لتبعث لنا قائمة بأسماء الأرمن المالكين للعقود . إنهّم عملياً أموات ، وليس لهم من يرثهم الآن ويقبض هذه الأموال، وبالطبع جميعها ستعود جمـيعها إلى الدولة فهي المستفيدة الوحيدة الآن من هذه العقود ، هل في إمكانك تلبية هذه الرغبة؟ ))) .

بالطبع ، رفض السفير الأمريكي هذا الطلب . وكم كان مذهلاً هذا التحوّل الجذري للقوميين الأتراك عن الإسـلام التقليدي في الـدور العثماني ونظرته إلى الأرمن ” كشعب الكتاب ” و ” أكثر ملّة موالية ” ، بالمقارنة مع نظرة طلعت باشا حيث يعتبر الأرمن غرباء حتى في موتهم ، واستخدام دورهم في الحصول على أموالهم فقط.

يقول لويس : فكرة ( إنّ الأتراك شعب يتكلّم اللغة التركية ويعيش في تركيا ) ولّدَت ظروفاً عصيبة لم تستطع الأقلّيات فهمها ولم يستوعبها حتى الأتراك أنفسهم . فإنّ تحويل الهويّة القومية عند الأغلبية يتطلّب التغيير في كيفيّة النظرة إلى الأقلّيات ، وعندما يصبح الأتراك قوميين أمثال كوكالب وأنور وطلعت سيكون طبيعياً أنهّم سيرون الأرمن والسـريان وغيرهم من الأقلّيات تحت ضوء جديد ، ليس كملّة قديمة ولكن كغرباء لا يجب أن يعيشوا بينهم.

إنّ مذابح الأرمن والسريان يجب أن لا تُفهم كإجابة على التحريض والاستفزاز الأرمني فحسب ، بل كردّة فعل على الخسائر التركية وخطوة من خـطوات الثورة القومية التركية . لقد نجحت الثورة في قيام تركيا الحديثة ولكنّها كانت ، في مجرى سـيرها ، على وشك القضاء على شعوب قديمة لها أصالتها وتاريخها.

تدخّلت قوى الحلفاء حال سماعهم أخبار هذه المأساة في 24 نيسان سنة 1915. وأعلنت ” أنّه في تحقيقيها حول الجريمة الجديدة التي تقدم عليها حكومة الدولة العثمانية ( الباب العالي ) ضدّ الحضارة والإنسانية ، قرّرت بأنهّا ستعتقل جميع أفراد الحكومة التركية والموظفين الذين اشتركوا في هذه المذابح لأنهّم مسؤولون شخصياً عليها ” . وفي كانون الثاني سنة 1918 أعلن رئيس وزراء بريطانيا (لويد جورج ) أنّ [ بلاد ما بين النهرين ، وأرمينيا ، وسوريا ، وفلسطين جديرة في أن يُعترف باستقلالها القومي] . تصاريح أخرى أرسلتها فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد حثّت الأخيرة على لسان رئيسها[ وودرو ولسون] على:

( تقديم المساعدة للشعبين السرياني والأرمني في محنتهم هذه ).

وجاءت اتفاقية “سيفر” في 10 آب سنة 1920 التي تضمّنت نقاط الرئيس ” ولسن ” الأربع عشر، ومنها:
( يجب ضمان حرية استقلال القسم التركي في الامبراطورية العثمانية الحالية . وضمان حماية الاقلّيات التي هي تحت حكم الأتراك وعدم مضايقتهم في تطوير فرص استقلالهم ونموّها . والاعتراف لليونان بالحكم على بعض أقسام الأناضول ).

ولكنّه حين جاء مصطفى كمال في تموز سنة 1925 على رأس جيوش تركية مدعوماً من قبل روسيا تحدّى علناً اتفاقية سيفر ، واستطاع أن يقنع الدول الأوروبية وأمريكا بتوقيع معاهدة لوزان ، التي كانت صورة منقّحة عن معاهدة سيفر والتي أشرف على تعديلها مصطفى كمال بنفسه.
والمدهش أنّ معاهدة لوزان لم تأتِ بأيّة ملاحظة أو إشارة أو حتى بكلمة عن الأرمن أو السريان أو أرمينيا في النسخة الجديدة ، وكأنّ لا وجود لهم في التاريخ . مع العلم أنّ الدول الغربية التي وقّعت معاهدة سيفر وطالبت العثمانيين باستقلال أرمينيا وبلاد ما بين النهرين وغيرها، هي ذاتها التي اشتركت في توقيع معاهدة لوزان ، وإن دلّت هذه المفارقة على شيء فإنهّا تدلّ ، وبكلّ وضوح ، على تخلّي الغرب عن الوعود التي قطعها للأقلّيات في معاهدة سيفر ، وربما لأنّ مصالحه الحيوية اقتضت التحالف مع الأتراك على حساب الأقلّيات.

في أعقاب توقيع معاهدة لوزان طُويت صفحة مذبحة العام 1915 ، وما عادت قضيّة الاقليات وما تعرّضت له من قبل السلطات العثمانية قضيّة تهمّ الغرب ، وتم التعتيم على حقوق الأقلّيات في الأوساط الغربية ، التي اقتضت مصالحها واستراتيجيّتها المرحلية التقرّب من تركيا كحليف جديد لها. حتى وسائل الإعلام الغربية تفادت الخـوض في موضوع المذبحة لدرجة انهّا صارت أمراً منسياً.

وبعد هذا الاستعراض والتحليل التاريخي للوضع الإقليمي والعثماني لا بدّ أن يكون القارئ الكريم والقارئة الكريمة قد توصل او توصلت إلى أنّ المذابح التي تعرّض لها الأرمن والسريان وغيرهم ليست نتاج خلاف ديني ، وإن كان التحريض الديني قد استغلّ ، ولا يمكن اختزالها بالاستفزازات الأرمنية ضدّ العثمانيين ، وإن كانت سبباً في خلق التوتر بين الأرمن والعثمانيين ، ولكن عندما توضع هذه المذابح ضمن إطار تاريخي شامل تمكننا من الإحاطة بعوامل لا تحصى ، كلّ منها ساهم بطـريقة مباشرة أو غير مباشرة في تهيئة ظروف هذه المذابح…

بقلم: عضيد جواد الخميسي | نقلا عن: ahewar.org

scroll to top