8202.jpg

اسطورة دافيد الصاصوني.. بقلم: آرا سوفاليان

أهدتني إبنة عمي التي تعيش في أرمينيا بريليانتيغ ميهران سوفاليان وزوجها آرسين آركامي بيدروسيان أثناء زيارتهما الأولى لنا، معجم صور يحيط بالتاريخ الأرمني والأوابد والآثار الأرمنية القديمة من عهود أورارتو في أرض أرمينيا الكبرى التي تمتد من مناطق جورجيا والقفقاص وأذربيجان لتتاخم أواسط آسيا الصغرى ثم غربها ناحية المتوسط وهي تلك الأراضي التي تعرف باسم مملكة أرمينيا الصغرى أو كيليكيا مروراً بسوريا ولبنان وحتى سواحل عكا في فلسطين حيث وصلت جيوش الملك ديكران الكبير الفاتح إلى هناك ونشأت أمبراطورية أرمنية قوية لم ينجح الأرمن في الحفاظ عليها، وتم العثور في عكا على لقى أثرية وهي نقود ذهبية مصكوكة تحمل رسم الأمبراطور الفاتح الملك ديكران الكبير، وصولاً إلى صور الأديرة والكنائس وبوابات وأسوار مدينة آني عاصمة أرمينيا القديمة وكل ما تم دكه ونسفه وتسويته بالأرض بديناميت الاتحاديين والكماليين من بعدهم.. وصولاً إلى المتاحف والشوارع ومبنى الميترو والمعارض والمسارح ودار الأوبرا والتماثيل والمنحوتات والتحف الأثرية في المتاحف وتلك التي تزين الساحات العامة في يريفان.

ووقفت مشدوهاً أمام صورة رائعة بل منحوته تمثل البطل الأسطوري دافيد الصاصوني يمتطي حصانه ويحمل سيفه الأرمني الأصيل.

توقفت طويلاً أمام الصورة والسيد بيدروسيان زوج ابنة عمّي يتولى الشرح والتعريف وينتظر الصورة التالية، وعندما طال انتظاره قال لي الحق معك يا آرا أن تتوقف طويلاً أمام هذه الصورة، فهذه المنحوتة نالت جوائز عالمية وتعتبر بحق أجمل منحوته لحصان وفارس وسيف في وضع الحرب.

ومضت سنين وعثرت بمحض الصدفة على قصة للأطفال تحكي عن دافيد الصاصوني ولكن بأسلوب لم يعجبني ويتناول المسألة على أنها مقالة لإضحاك الأطفال وأعتقد أن الفعل كان مقصوداً ويناسب سياسات الاتحاد السوفياتي السابق ومواقفه من تاريخ الأقليات وشخوصهم وأبطالهم القوميين. وصوبت المقالة عن طريق ردها إلى أصولها التاريخية وتنحية الجانب الذي تم دسه عن قصد.

وأثرت بي القصيدة تأثير عميق وتمنيت لو أن معجزة تحدث ويولد دافيد آخر إبان مجازر صاصون 1892/1894 ليخلص صاصون وأهلها من حمامات الدم التي افتعلها السلطان عبد الحميد الثاني وأهدرت أرواح عشرات الألوف من الأرمن الذين قضوا تحت التعذيب وتحت ألسنة النار حيث سدت نوافذ البيوت والكنائس والمدارس بالقش وتم ترطيبها بالزيت والنفط والزفت وتم نقل هذه السوائل بواسطة الصهاريج ثم بالجرادل وأشعلت نار خرافية إلتهمت أرواح أهل صاصون وقراهم وهم أحياء وصراخهم يسمع من تحت النار.
وأنعم السلطان عبد الحميد بوسام السلطنة الذهبي على المشير زكي باشا تقديراً لخدماته وشجاعته وأنعم أيضاً على أربعة من رؤساء العشائر الكردية برايات السلطنة الحريرية.
وهرب من بقي على قيد الحياة من أهالي صاصون الى العراق و ايران وبلاد الشام ووصل بعضهم الى حلب.

وقال عنهم المؤرخ محمد كرد علي: دعيوا بالصواصنة أو الصوصانية نسبة إلى جبال صاصون التي جاءوا منها هرباً من المجازر، وعملوا في صناعة الخبز وتميزوا بالإرادة الصلبة والاستقامة والعند والتصميم، كانوا يوشِّحون أرغفة الخبز برسم الصليب وهذا ما درجوا عليه في بلادهم حيث يتم وسم رغيف الخبز بإشارة الصليب بمساعدة أداة معدنية تحمل في نهايتها رسم الصليب يتم إحماؤها في الفرن وتستعمل من أجل هذا الهدف.

وتجمع القطع المعدنية ليتم رشها بالماء المقدس ضمن شعائر خاصة في ليلة سبت النور (في القدس) وقيامة السيد المسيح وتعاد إلى الأفران في صاصون.
وحمل الصواصنة هذا التقليد معهم إلى حلب ووسموا خبزهم برسم الصليب فتوقف الاخوة المسلمون عن شراء خبزهم ففشلت صنعتهم وتجارتهم بعد إصرارهم على التمسك بصنعتهم وموجباتها من الألف إلى الياء حيث يتم الوسم برسمة الصليب.

وقدر الله لي فتاة صاصونية أحببتها ومنحني الله منها ابنتين جميلتين أهديها هذه المقالة والشعر المترجم بكثير من التصرف عربون حب ووفاء، وهي أم أولادي رين أو Renee صوصانية سليلة دافيد الصاصوني والتي لا بد أن تعرف بأنها سليلة ذاك الملك الشجاع وتحمل خصائصه، وأنها الأرمنية الأصيلة رغم ذهاب نسبتها التي كانت تحمل اليان في آخرها، فتحولت إلى صوصانية نتيجة البطش والإبادة ومثلها الكثيرون الذين تحولت أسماؤهم إلى جورج والياس وجوزيف وميشيل خوفاً من الهمجية والتوحش ونار الحقد التي طالت كل شيء.

اسطورة دافيد الصاصوني:

سحب اوهان الحصان الأسود، ووضع رجله في الركاب الأيسر وقبل أن يضع الثانية في الركاب الأيمن توقف الحصان فوق قمة جبل صاصون.

وهناك رأى اوهان حصان دافيد إبن أخيه، شارداً في الجبال بدون فارس وجيش الفرس يملأ السهل كأنه أمواج البحر.

لبس اوهان سبعة من جلود الجاموس لتشتد مقاومتها فلا تتمزق، ثم وقف فوق قمة الجبل وكأنه الغيم المتلبد وصاح: هيا هيا يا دافيد أين أنت، تذكر الصولجان الذي في يدك اليمنى والفظ اسم الأم المقدسة فتخرج إلى النور وترى الأرض من جديد.

فسرى صوته كالرعد ووقع في أذن دافيد فقال ها هو عمّي يناديني من أعلى قمة في جبل صاصون.

وأضاف اوهان يا ماروتا يا والدة السيد المسيح، أيها الصليب الخالد المقدس رمز عذابات ملك الملوك، أبتهل إليكما أن تساعداني لأعثر على دافيد.

فوقف دافيد على رجليه، وضرب حجر الطاحون ضربة حطمته وحولته إلى ألف قطعة تطايرت في الفضاء وما زالت تدور فيه حتى اليوم، ثم خرج من الحفرة ووقف كالطود الأشمّ.

ذُعر ملك الفرس مما رأى وقال مخاطباً دافيد.

ـ أخي دافيد تعال معي الى هنا نقعد إلى المائدة ونتحدث.
ـ لا … لن أقعد بعد اليوم إلى مائدتك ما أنت إلاّ عدو دنيء وجبان جاء يحتل أراضي الغير، هيّا خذ سلاحك واركب حصانك وانزل إلى الميدان لنتبارز.
ـ لا بأس لا بأس … لنتبارز … قال ملك الفرس … بشرط أن أبدأ أنا بالضرب.
ـ ليكن لك ما تريد، قال دافيد، ثم ذهب ووقف في وسط الميدان.

ركب ملك الفرس حصانه وحمل دبّوسه وأعدًّ عدته وابتعد بحصانه حتى ديار بكر، ومنها كرَّ على دافيد مشرعاً عليه رمحه الضخم الذي يزن ثلاثة آلاف رطل، فلمّا وصل اليه، ضربه به وارتفع الغبار واهتزت الكرة الأرضية، فتسائل الناس في البلاد، ماذا جرى؟ أزلزالٍ هو أم صاعقة عظيمه؟ فأجاب العارفون بالحقيقة ( إن العمالقة يتبارزون).

وصاح ملك الفرس في جنده صيحة فرح، لقد قتلتُ دافيد بهذه الضربة، إلاَّ أن دافيد صاح من بين الغبار… لا زلت حياً أيها الملك.

ـ طبعاً فلقد جئتك من مكان قريب ومن مدى أقرب أنظر من أين سآتيك الآن.

وقام العملاق ليكرَّ مرة ثانية وركب حصانه ومضى عائداً به في هذه المرة إلى حلب ومنها أطلق لجواده العنان فهبت الأعاصير من الجانبين لهول السرعة، أما سنابك الحصان فلقد هزّت الأرض هزّاً، فلمّا وصل ضرب ضربة عظيمة أصمّت آذان الناس القريبين منها.
وصاح ملك الفرس مرة أخرى جذلانً

ـ ها قد مات دافيد الصاصوني… فناداه دافيد، لا زلت حياً أيها الملك، ولتضرب ضربتك الأخيرة وبعدها يأتي دوري.

فتعجب ملك الفرس وقال: طبعاً فلقد جئتك من مكان قريب ثم نهض للمرة الثالثة وركب حصانه وابتعد به هذه المرة إلى بلاد فارس وعاد كالبرق الخاطف، يلوّح بدبوسه الضخم فلما وصل استجمع قوته وضرب ضربة عملاق ثقيلة وارتفع الغبار حتى حجب الشمس وغطّى سهل صاصون بأكمله وبقي الغبار كالسحاب ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ والناس خلالها يتأسفون على شباب دافيد الضائع، حتى مضت الأيام الثلاث وانقشع الغبار عن السهل الفسيح، فبدا دافيد راسياً كالطود، شامخاً مثل جبل كوركور العظيم وقال: لمن الدور الآن أيها الملك العظيم، فانتاب الملك خوف شديد وارتعش فؤاده رعشة الموت وطارت نفسه الخبيثة كالشعاع وأسرع إلى إحدى حفره العميقة واختفى في ظلمتها الكئيبة بعد أن أمرْ بأن توضع على فوهة الحفرة أربعون قطعة جلد وأربعون حجر طاحون، وعندئذٍ إستعدَّ دافيد الليث إبن ذاك الليث وركب حصانه ولكزه فطار به، وسيفه البرّاق يلمع في يده فأسرعت اليه جاتو أم ملك الفرس وشعرها منسدلٌ على وجهها قائلة: دافيد لتطأني سنابك حصانك، ولتمنحني هذه الضربة، أتوسل اليك، فقال لها حسناً هذه لك وبقيَّ إثنتين…فجاءت أخت الملك تبكي وتتوسل.

ـ دافيد أقتلني بدلاً منه… إطعن صدري وأعفي عنه… فقال حسناً، هذه لك وبقيت واحدة.

قال دافيد: لم يبق له من يشفع له، فيجب أن تكون الضربة قاضية.

ثم نهض إلى حصانه وركبه وطار به كالريح بل كالصاعقة وانقض على مكمن الملك وضرب بسيفه البرّاق فتقطعت الجلود الأربعين وتحطمت الحجارة الأربعين وطارت في الهواء، وشق جسد الملك إلى نصفين، فرددت روح الملك المتعبة من أعماق الحفرة صيحة يائسة، أنا حيّ يا ديفيد، أعد الكرّة إذا شئت.

ولكن دافيد كان واثقاً من ضربته وواثقاً من نفسه ومن سيفه، فقال للملك: إضرب على صدرك تعرف الحقيقة، فضرب الملك على صدره فإذا به ينقسم الى شقين، الشقين الذين قطعهما السيف وقع الأول على اليمين ووقع الثاني على اليسار، فلما شاهد جند فارس ما حلَّ بملكهم تملّكهم خوف عظيم.

فوقف دافيد بهم وقال: أيها الجند لا تخافوا واستمعوا إليَّ… ما أنتم إلاَّ رجالٌ مضطهدون، تعيشون جياعاً وعراة في ظل الاستبداد وتعانون من شتّى الآلام، وتشتكون من الهموم، فما بالكم تحملون الأقواس والنبال وتغيرون معتدين على أرض غيركم، إنّا لنا بيوتاً وعيالاً وآباءٌ وأبناء مثلكم، فهل مللتم الحياة المطمئنة التي كنتم تقضونها في الفلاحة آمنين، أم سئمتم الأرض والحقل فتركتم أرضكم وزرعكم وحصادكم وركضتم وراء آمالٍ خائبة.

هيّا عودوا من حيث أتيتم إلى أرض وطنكم فارس واتركوا أرمينيا العظيمة لشعبها العظيم واعلموا أنكم إن عدتم لتعتدون علينا بالسلاح فستلاقون من دافيد الصاصوني وأحفاده وسيفه البراق وسيوفهم ما لاقاه ملككم، وستصل سيوفنا إليكم أينما كنتم ومهما بلغتم من الأعماق مستترين بالصخور، وبإذن الله سوف تندمون أشد الندم وستخسرون الحرب إن جئتم إلينا تحاربون لأنكم أنتم المنهزمون.

من منشورات مطبعة مطرانية الأرمن الأرثوذوكس في تفليس في العام 1892 ومن مؤلفات الشاعر الأرمني الكبير هوفانيس تومانيان المولود في قرية تسيغ في مقاطعة لور الأرمنية وهو إبن قسيس القرية وكان يقرض الشعر مذ كان في العاشرة من العمر.

ولد في العام 1869 ولما بلغ الثالثة عشر من العمر، أرسله والده الى مدرسة نيرسيسيان في تفليس عاصمة جورجيا فدرس فيها ثلاث سنوات ثم تركها ليعمل موظفاً في مطرانية الأرمن في تفليس، ليترك العمل بعد ذلك ويتفرغ للكتابة.
على هامش المقالة:

القصيدة كتبت في العام 1892 وأثناء حوادث صاصون، والهدف منها هو إلهاب المشاعر الوطنية والحث على الجهاد والمقاومة، والسؤال الآن هو ـ ماذا بالنسبة لمجازر 1915 التي تفوق في وحشيتها وضحاياها آلاف المرات مجازر صاصون وما هو موقف أحفاد عظيم الفرس وغريم دافيد من الأرمن في العـ 1915 ـام.

الجواب هو الآتي:
إبان مجازر 1915 هرب العديد من الأرمن ومعهم بعض القيادات الى ايران وقدم الشعب الإيراني لهم كل العون والمساعدة والحماية والمسكن والملبس والطعام والجنسية والمدرسة والكنيسة وضمن لهم حق ممارسة شعائرهم الدينية والتحدث بلغتهم القومية، وطلب العثمانيون وبشكل رسمي إستردادهم بإعتبارهم أعداء هاربين.

ورفض مضيفوهم تسليمهم الى العثمانيون، وكذلك فعل اليزيديون من أعالي جبال سنجار ومرروا رسالة الى العثمانيين، بأن من لجأ الى أعالي جبال سنجار من الأرمن هو ضيف لاذ بأهل جبال سنجار وأهل جبال سنجار لا يهدرون أرواح المستجيرين بهم، وعلى مريديهم الصعود لإستلامهم.

وصعد من صعد فتم سحقه وهرب البقية صاغرين أمام الصخور التي قذفها أهل جبال سنجار زوداً عن شرفهم وزوداً عن ضيوفهم من الأرمن الذين صعدوا مستجيرين بهم فبرهنوا أنهم يعتصمون بالمبادئ والشرف ويملكون من كليهما ما لم يملكه من سرابهما أناسٌ كثر، وأحاط العثمانيون بجبالهم ورموها بالمدفعية الثقيلة وكانت بمجملها وبمقذوفاتها لا تعادل جزء بسيط من يمين أقسمه أهلها يقضي بحماية الأرمن فأنقذوا الكثيرين.

لتضاف هذه المكرمات الى مكرمات الشعب العربي عموماً وأهل بلاد الشام خصوصاً الذين رضيوا مقاسمة الأرمن الخبز والزاد في يوم محنتهم الرهيب والذين منحوا الأرمن الأرض ومخيم اللجوء ثم المدرسة والكنيسة وحق التملك وحق ممارسة الشعائر الدينية وتطبيق القوانين والأحكام الكنسية المتعلقة بالأحوال الشخصية وحرية العبادة واختيار يوم العطلة ومنحوا الأرمن حق المشاركة بالمواطنة والمواطنة الأصيلة وحق الانتخاب والبطاقة الشخصية وجواز السفر.

ومن هنا وصورة دافيد الصاصوني أمامي وسيفه البرّاق بيده ويمتطي حصانه البرونزي الجميل لا أجد بداً من الانحناء لمكرمات الشعب الايراني العظيم ومكرمات القاطنين في أعالي جبال سنجار لفضلهم من بعد فضل الله تعالى خالق الأكوان، فضلهم في حقن دماء الأرمن وإنقاذ أرواح من لجأ إلى ديارهم … وأرى أن يحفظ الصاصوني دافيد سيفه في غمده عندما يقف وحصانه ووجهيهما باتجاه الجنوب الشرقي في مواجهة إيران، مفسحاً المجال لأحفاده الذين يقدمون سلال الورود للشعب الذي أبى التخلي عن التقاليد العظيمة التي ورثها عن أمبراطورية عظيمة فقدم ولا يزال للأرمن كل الدعم والحماية مفرغاً الأسطورة من محتواها.

وأرى أن يحفظ الصاصوني دافيد سيفه في غمده عندما يقف وحصانه ووجهيهما باتجاه الجنوب في مواجهة شرق الوطن العربي برمته، مفسحاً المجال لأحفاده الذين يقدمون سلال الورود للشعب الذي أبى التخلي عن تقاليده العظيمة في الضيافة والكرم التي ورثها عن أجداده العظماء أسياد التاريخ فقدم ولا يزال للأرمن كل الدعم والحماية مقتدياً بالشريعة الإسلامية السماوية السمحاء وبالقرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين.

بقلم: آرا سوفاليان
بتاريخ: 2007-09-03
الصورة: دافيد الصاصوني كما يبرز من خلال عمل النحات الكبير كوتشار.

scroll to top