7184.jpg

سارة وردة الصحراء العنيدة.. بقلم: آرا سوفاليان

كنت صغيرة وفي عمر السبعة سنين أخشى الظلام كثيراً، ولا أحب النوم، كانت أمي تضعني في حجرها وتغني لي حتى أنام، كنت أشعر بدفئ أمي وحنانها فأستسلم للنوم ولكن كان هناك من يترصدني ويبدد هنائي.

كوابيس متلاحقة لا أعرف سببها، وأنتفض وانهض واغادر سريري لا أريد العودة إليه، وابكي.

كبرت وبلغت سن الرشد، وزادت هذه الحالة وكنت ارى نفس الكابوس لمرات عديدة قبل ان يتغيير الفيلم ويتغير معه أبطاله وكافة الممثلين…عربات تجرها الخيول تحمل أطفال على وجوههم نظرات لا يمكن تفسيرها…وفي الأرض أشلاء وقتلى ودماء، وكانت هذه العربات تنقل الاطفال وتدور في الساحات، وتخترق الشوارع المظلمة، الى مصير غير معروف والى أمكنة أشد ظلاماً…عويل نساء ونحيب…وطفل يقف على الجانب الأيمن للعربة ويمسك بيده قضبان خشبية وكأنه خلف باب سجن…لا أنسى نظرته التائهة وفوق جبينه خصلة شعر بيضاء مع أنه طفل، كان هذا المنظر يخيفني على الدوام، وفي مكان معين يخرج الطفل يده من بين القضبان الخشبية ويشير لي بأن تعالي…تعالي.
فأصرخ وانهض من نومي…وتضمني أمي الى حجرها من جديد…وتتلو لي الأدعية جاءت سيدة قالت لأمي ابنتك هذه يسكنها الشيطان ولا بد من اجراء صلاة لطرد الشيطان وهناك ابتهالات خاصة وأدعية ويتم خلالها قراءة ما تيسر من القرآن الكريم فهناك أيات محددة يجب تلاوتها ولا بد من التضحية بكبش يذهب للفقراء ويجب شراء بخوّر خاص…ولم تنجح هذه المسألة بالمطلق وكان الكابوس يعيد نفسه.

وكنت ارى العربات نفسها تعود محمّلة بالجثث، عربات تجرها الأحصنة ولا أرى الحوذي ولكن اسمع اصوات السياط، وصوت عجلات العربة التي تئن وهي متعبة، واسمع اصوات العويل والنحيب وتذهب العربات في طرقات متعرجة وتتلاشى…

جاء من يتحدث مع أبي ليصف الحالة على انها تقمص وانني مسكونة…ويجب طلب المساعدة من صاحب الطريقة فلان أو من الشيخ فلان ويجب عمل مولد و……وكان والدي لا يؤمن بكل هذه الطرق فأخذني الى حلب وذهبنا الى عيادة طبيب نفسي، قال انه يجب ابعادي عن المسبب فهناك من يلقي على مسامعي هذه الامور ويخيفني بها فأراها في أحلامي على شكل كوابيس…ووصف لي بعض المهدئات…، ولكن لم يكن هناك أي أحد يلقي على مسامعي هذه القصص أو يخيفني منها…وقرر والدي ان لا أجلس في جمعات الكبار، وقرر ان ارافق أترابي من أقربائنا فحسب…وربما ولأسباب نفسية انخفضت تأثيرات الحالة وصارت الكوابيس متباعدة.

كنت أخلد للراحة والسكينة وانا في حضرة جدي موسى والد والدي كنت أعد له ابريق الشاي وأضع مع الشاي شيء من النباتات العطرية وكان يترضّى عليّ وأجلس بقربه وأقول له: احكي لي يا جدي…فيقول: ماذا أحكي لك؟

فأقول عن عائلتنا وعن أصلنا…فيقول لي: لا أعرف الكثير فنحن عائلة جذورها فتية ولا يقربنا أحد، فأسأله لماذا جذورنا فتية ولماذا لا يقربنا أحد فيقول: أن قومنا ينسبوننا الى قوم آخرين وهذا يدعوا للإشمئزاز وهو في غير صالحنا ويجب ان لا نفكر به لأن مساوئه أكثر من محاسنه…فأقول له: لماذا مساوئه أكثر من محاسنه يا جدي؟ فيقول على مضض يقولون عنّا أننا أولاد وأحفاد الكفار وأصولنا من الأرمن والأرمن كاوور كما تعلمين …ما هو الاثبات اننا من الأرمن؟ لا أعرف…ما اسم جدنا الذي من أصل أرمني؟ لا أعرف…يفترض يا جدي أن والدك هو المعني بالأمر…لا أعرف وكل الذي أعرفه أن اسم والدي كان عبد الرحمن ويلقب بالشاهين…وكان رجلاً صالحاً على الرغم من انه لم يدخل مسجداً في عمره ولم أراه يصلّي…وأنت مثله يا جدي وأبي مثلك وانا وإخوتي أيضاً.

نعم نعم أنا أصغر اشقائي وشقيقاتي ونحن سبعة بقي منّا اختي الصغرى وأخي الأكبر مني مباشرة وهم على حد علمنا في فنزويلا فلقد تزوجت اختي الصغرى الى هناك وذهب معها أخي الأكبر مني مباشرة واسمه سليم واسمها زهرة ونسبتنا مجهولة وجعلناها عبد الرحمن على اسم والدنا عبد الرحمن.

أنا تزوجت من جدتك نور ورزقت منها بخمسة أولاد صبيّان اثنان وثلاثة بنات، البكر هو والدك عبد الله وعمك محمد وعماتك زينة وفاطمة وليلى…جدتك شركسية الأصل ومن قبيلة أمك ونحن ننحدر من أصول كردية تركية مسلمة جاء والدي الى منبج من عفرين بعد ان ضاقت به الحال فلقد حدث شجار كبير بين أهله وبين عشيرة أخرى وخشي على نفسه من القتل بداعي الثأر فترك عفرين وجاء الى منبج.

إذاً انا سارة ابنة عبد الله إبن موسى إبن عبد الرحمن الملقب بالشاهين، ولا تعرفون أحد قبل عبد الرحمن…نعم لا نعرف أحد قبل عبد الرحمن.

واشترى والدي بيت في حلب ورأت والدتي ان ننتقل من منبج الى حلب ، وكانت امي تذهب الى منبج وتعود الى حلب وكنت ابقى من اجل الالتحاق بمدرستي، الى ان حسمت والدتي الأمر وقررت البقاء في حلب وتبعها أبي أما أخي فلقد ذهب الى هولندا وهو طبيب وتزوج هناك.

كانت أجمل أيام عمري تلك التي قضيتها في حلب، ففي حيّنا الميدان تعرفت أمي على بعض النسوة الأرمن وصارت لها صداقات وكانوا يأتون لزيارتنا ويعرضون علينا خدماتهم…كانت هناك سيدة أرمنية متقدمة في العمر تدعى آروسياك أم جيرو…تحبني كثيراً وتحضر لي بعض الحلوى وكعك عيد الفصح وتراعيني كثيراً…فسألتها مرة عن السرّ…فقالت: احضري لزيارتي فأطلعك على السرّ…طلبت من أمي أن تأخذني الى منزل الجدة آروسياك عند أول

فرصة…وذهبنا وتبين ان الجدة آروسياك قد أعدّت طاولة صغيرة لإستقبالنا وتذوقت عندها الطبخ الارمني لأول مرة، وتناولنا الحلوى وبعدها القهوة…ثم سألتها: ايتها الجدة آروسياك جئتك على أمل أن تحدثيني عن سرّ…والآن وقد شارفت الزيارة على نهاياتها فأنا لا زلت انتظر…آه يا حبيبتي سارة لقد تمنيت أن تنسي هذا الأمر ولكن وأمام إصرارك تعالي معي لأريك شيئاً…وذهبنا الى غرفة الضيوف وكانت انيقة ونظيفة وبابها موصد…ودخلنا الى الغرفة وأشارت الجدة آروسياك الى صورة كبيرة تم تأطيرها بإطار مذهب وهي صورة منقولة عن صورة صغيرة وضعت في الزاوية اليمنى السفلية للصورة الكبيرة…وكانت مفاجأة مذهلة…قلت: ايتها الجدة آروسياك هذه أنا هذه سارة…فأجابت الجدة آروسياك…نعم نعم هذه صورة أمي وهي تشبهك كثيراً جداً ولكن اسمها لم يكن سارة بل تاكوهي آسبيت آيوازيان.

واغرورقت عيبنا الجدة آروسياك بالدموع ثم بكت وتحول بكائها الى نحيب وكانت تتحدث عن قصة أمها وقالت انهم جاؤوا من هاجن وانه في مكان لا تعرفه تم التخلص من اخوتها الذكور وتم خطف خالتها التي لا تذكر ملامحها ولا تذكر اسمها، وتم بعد ذلك اغتصاب امها التي قاومت قدر طاقتها ليتم ذبحها من الوريد الى الوريد وسالت الدماء على رقبتها وبين نهديها عندما أدخل قاتلها يده في صدرها وأخرج جزدان جلدي ملوث بالدم سرق منه ما كان فيه ورماه فارغاً على الأرض.

وأضافت الجدة آروسياك قائلة: وكنت في السابعة أو الثامنة من العمر وبدون وعي التقطت الجزدان الملوث بالدم ووضعته في جيبي، ولم أعرف ما حدث لي بعد ذلك ولكن تم تسليمي هذا الجزدان بعد ان خرجت من دار الأيتام هنا في حلب وتزوجت من أبو كارو…أولادي كلهم في اميركا وانا أعيش هنا مع ذكرياتي وآلامي والذي يحدث لك يا سارة لا يزال يحدث لي حتى وأنا في هذا العمر حيث أنام على كابوس وأصحى على كابوس…لقد تخلت ذاكرتي عن كل شيء إلاّ منظر أمي.

لم تكن نتائج هذه الزيارة سارّة فلقد طرق بابي من جديد كابوس العربات والطفل ذو خصلة الشعر البيضاء…وجن جنوني…وفي اليوم التالي ذهبت لزيارة الجدة أم كارو وحدثتها بالأمر فقالت: يا ابنتي نحن الأرمن نؤمن بوجود الروح ولا بد ان هناك من يسبب لك هذه المعاناة بدون قصد ويمكن ان يكون أكثر من واحد…الأرواح تحوم في الفضاء وتنزل الى الأرض تبحث عن الأقرباء الافتراضيين وتناجيهم، وبالنسة لنا فإن الأرواح تبقى هائمة وسابحة حتى يحظى أصحابها بجنازة ودفن وصلاة لائقين.

ايتها الجدة آروسياك سأطلعك على أمر لا أفهمه وشيء لا أستطيع اثباته, أشعر انني لست سارة بل شيء آخر ولست كردية بل شيء آخر، وجدي يقول أن أصولنا من الكفار، وصديقاتي كلهم من الأرمن وانا أحبهم بشكل لا يصدق…وأشعر أنك جدتي وأحبك كثيراً، أسمع صديقاتي هنا وهنّ يتحدثن باللغة الأرمنية فيخفق قلبي بشدة، تعلمت اللغة الارمنية وصرت اتحدث بها

وافهمها وتعلمت القليل من الكتابة وتعلمت الأحرف…جديّ قال أن قومنا ينسبوننا الى قوم آخرين كفّار وهذا يدعوا للإشمئزاز وهو في غير صالحنا ويجب ان لا نفكر به لأن مساوئه أكثر من محاسنه، يبدوا ان الاكراد ينسبونا الى الأرمن ويعيّرونا في هذا…سأبحث هذا الامر مع أبي وأعمامي وأولادهم فهناك قيد في يداي وحبل يلف عنقي وأريد التحرر…أريد معرفة الحقيقة.

أبي قال انه لا يعرف عن هذا الأمر أي شيء وكذلك أعمامي أما أولادهم فلقد ذهب بهم الأمر الى تهديدي بالقتل ومنعي من التحدث عن هذا الأمر…قالو لي نحن اكراد مسلمين وأصلنا من تركيا وأي كلام غير هذا يطعن بشرفنا وبأصلنا فنحن لم نكن ولن نكون في أيّ يوم من الكفار وان الاستمرار في هذه المهزلة له نتائج خطيرة يتحملها صاحب هذه الفكرة التافهة لوحده…وكان المعني أنا…ولكن أنا من أنا أنا لست سارة بل أنا الفتاة التي لا تعرف من هي… أنا سارة…أنا وردة الصحراء العنيدة.

في اليوم التالي ذهبنا انا والجدة في زيارة رائعة، وكانت نتائج هذه الزيارة من أجمل ما حدث لي في كل عمري …كانت الزيارة عفوية وغير مخطط لها…قالت لي: هل تذهبين معي ؟ الى أين؟ زيارة عائلية؟ نعم أذهب…سأذهب لزيارة إبن أخي ومنزله يبعد عن بيتنا ربع ساعة تقريباً … مشغله ومنزله واحد، حسناً ولكن ماذا يعمل؟ …هو فنّان تشكيلي…هو رسّام؟ نعم وعنده لوحات كثيرة …هل يسستطيع بيعها؟ نعم ولكن قليل… ما اسمه ؟ سركيس…كم عمره؟ أصغر مني بقليل…ولكن…ماذا؟ لا شيء لا شيء هيا لنذهب.

في الواقع دار في ذهني السؤال الآتي: الجدة آروسياك فقدت كل أهلها في المجزرة فمن أين صار لها أخ وإبن أخ !!! لا أريد احراجها فالأمر برمّته غير مهم.

وصلنا الى البيت وكان من الطراز القديم المتهالك ويحتاج للترميم، عريشة عنب، وبحرة ماء وغرفتين صغيرتين، وأبواب خشبية متآكلة وحمّام صغير ومطبخ…وقطة تفترش الأريكة الوحيدة الموجودة في الجنينة، تتثائب وتنظف نفسها…لم تهتم لنا ولم تتحرك…الباب مفتوح على الدوام ويبدوا انه بلا مزلاج ولا قفل.

سركيس…تفضلوا أنا في المرسم…لا نريد الدخول الى المرسم رائحة الدهان والزيوت والتربنتين وعفن الكتّان تسبب لي الحساسية…نريد ان نجلس في الجنينة…حسناً يوجد ثلاثة كراسي خيزران اثنان في المطبخ والثالث اجلس عليه…تدبروا الأمر وسأوافيكم في الحال…سأضع ركوة القهوة على النار.

ـ أهلاً بعمّتي آروس من هذه الفتاة الصغيرة الجميلة التي أحضرتيها معك؟
ـ هذه سارة ويحلو لها ان تطلق على إسمها إضافة غريبة هي (وردة الصحراء العنيدة)
ـ نعم ولكن لا يوجد ورد في الصحراء أليس كذلك؟
ـ بل يوجد ايها العمّ سركيس، وورود الصحراء هي الشوكيات وتزهر في أوقات معينة،
ـ نعم بالتأكيد ولكن عندي لك اسم جميل
ـ ما هو ايها العم سركيس؟
ـ آنوش
ـ ما معناه ؟
ـ تتحدثين الأرمنية ولا تعرفين ما معنى آنوش؟
ـ أنا حديثة على تعلّم الأرمنية ، أخطئ أثناء التحدث بها وأخجل… تعلمتها من أترابي…وبالأحرى تعلمت منها القليل القليل …فأنا أفهم ولكن لا أستطيع التحدث…اتحدث بركاكة ولفظي غير صحيح، تعلمتها من أصدقائي وصديقاتي هنا في حلب…أشعر أن اللغة الأرمنية تعني لكي الكثير …أشعر أنها قريبة منّي وتخصّني…أشعر انها لي…ربما خلقت لي.
ـ ما هي لغتك الأصلية؟
ـ الكردية والعربية إذا شئت
ـ آه فهمت يا آنوش …وأنوش اسم مشتق من صفة هي آنوشيك بمعنى الجميلة …وكذلك يطلق على الطعم الحلو أو الجميل إسم آنوش
ـ منذ اللحظة سيكون اسمي آنوش
ـ هل تعتقدين ان ذلك غير حقيقي
ـ مثل أي شيء؟
ـ مثل أن تكون آروسياك عمّتي وأنا إبن أخيها
ـ لا لا أعرف تماماً أنه ليس للعمة آروسيك إخوة على قيد الحياة وإن كان لها فهم ماتوا في المجزرة ولا تعرف عنهم شيء… وبالتالي ليس لديها أبناء إخوة على الإطلاق
ـ نعم آنوش هي سعيدة بأن تطلق عليّ مسمى إبن أخيها وأنا سعيد بأن أطلق عليها لقب عمّتي.
ـ كيف تعيش؟
ـ هناك من يشتري لوحاتي…البعض يشترونها وهم لا يحتاجون اليها ولكن يحتاجون للمبرر الذي يمكّنهم من إعطائي المال…وأنا أقبل بأي شيء وأعيش سعيداً.
ـ هل ستعلمني الرسم؟
ـ نعم سأعلمك ولكن لا يمكنني منحك الموهبة…فالرسم يحتاج للموهبة.
ـ سنجرب وإن كانت الموهبة غير موجودة فسنتوقف …أحب أن أكون حفيدتك.
ـ رائع جداً فأنا لا حفيدة لي ويناسبني تماماً أن يناديني أحد بمسمى يا جدّي.

قطعة كتان صغيرة شدت الى مستطيل خشبي صغير رسمت عليها الخطوط الرئيسة للجدّة آروسياك وتدخّل العم سركيس كثيراً ليصحح لي الملامح وتوزع الألوان والاإضاءة الى ان خرجت اللوحة بالصورة النهائية ووضعت اسمي بالارمنية على اللوحة آنوش…

وأهديت اللوحة للجدة آروسياك عشية عيد الفصح فاحتضنتني وهي تبكي وكانت امي معي في هذه الزيارة حيث جلبنا بعض الأطعمة التي لم يقترب منها أحد وعدنا الى بيتنا فلقد كان علينا النهوض باكراً للسفر الى منبج لتفقد أرزاقنا وقد سبقنا والدنا الى هناك.

بقينا في منبج طيلة الصيف وعدنا الى حلب لألتحق بمدرستي حيث اشتقت لصديقاتي وأصدقائي من الأرمن…وذهبت لزيارة الجدة آروسياك حيث علمت بأنها مريضة، ضمتني الى صدرها ولم تتمكن من النهوض، وكنت أحضر كل يوم لتنظيف البيت واعداد بعض الطعام، الذي لا يقربه أحد فيبقى على حاله.

في صباح من صباحات أيار العابقة بالرطوبة، والغيوم السوداء، كان المطر ينهمر بغزارة حيث تصدر اصوات الصواعق ويعود المطر الى الانهمار وبشدة…ذهبت سارة لزيارة الجدة آروسياك وأخذت معها بعض زهور البنفسج والقليل من الطعام الخفيف وزجاجة ماء الورد التي طلبتها بالأمس، ودخلت سارة لتجد تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجه الجدة آروسياك والسبحة السماوية التي يعلوها الصليب والتي جلبتها معها من القدس، في يدها لقد كانت قد انهت للتو صلاتها وودعت هذا العالم.

انتشر الخبر في الحيّ وتم إعلام الكنيسة وكانت جنازة يلفّها الصمت لا يبكي فيها أحد إلاّ آنوش وردة الصحراء العنيدة…التي دخلت بيت الجدّة آروس في صباح اليوم التالي للجنازة وأخذت لوحتها، والسبحة السماوية وغادرت المكان دون رجعة.

لم يعد للجدّ سركيس من يزوره، وكانت آنوش تدخل مطبخه لتعدّ القهوة…وتصعد بها لتتناولها معه، وكان حزيناً على فقد عمته، رأت في يده قطعة كتّان يحاول شدّها على اطار خشبي صغير، وقد تلاشت قواه تماماً.

ـ دعني اساعدك…انت صغيرة ولا يمكنك ذلك…هل هذا مشروع لوحة جديدة؟ …نعم اريد أن ارسمك…ترسمني أنا؟ …نعم…سأبدأ في الغد…أحضرت لك بعض الحليب والجبن والزيتون والبطاطا

المسلوقة….آنوش الغالية هذه مؤونة اسبوع….بل مؤونة يوم واحد…قل لي ماذا تشتهي لأحضره لك في الغد…لا أريد أي شيء…فقط تعالي لزيارتي.

لم تنقطع سارة عن زيارة الجد سركيس يوم واحد وطلب منها في أحد الايام ان تحضر معها كاهن من كنيسة الأرمن ليصلي ويتناول …قالت له لماذا لا أحضر طبيب؟ أجابها لا فائدة من ذلك فلقد رأيت البارحة رؤية…ماذا رأيت؟ رأيت فرقة الكورال الكنسية في كلليس رأيت أمي ترتل على شرفة الكنيسة وأنا الى جانبها وامسك ثوبها الأبيض… وملائكة تهبط من السماء وترتفع تحاول أخذي وأمي تبتسم ولا تحرك ساكن، هذه الرؤية تدلّ على ان ايامي انتهت هنا على هذه الأرض الفانية.

وفي اليوم التالي جاء الكاهن مع سارة ولكنه اضطر ليصلي صلاة أخرى ووضع قطعة من القربان المقدس في فم الجد سركيس وأغلق له عيناه والى الأبد.

شعرت سارة بعد فقد آروسياك وسركيس أنها فقدت اسرتها الثانية بل الأولى وبقيت في البيت بعد جنازة العم سركيس شهر كامل أما الصورة التي وعدها بإنجازها فلقد بقيت قطعة من الكتان مشدودة على الاطار وخالية من كل شيء…فقررت ان تستخدمها في رسم الجد سركيس ففعلت ومزجت الألوان بدموعها.

ومضت بضع سنين وتقدمت سارة لإمتحان البكلوريا وأتاح لها مجموعها دخول كلّية الطب في جامعة حلب…وصار مجتمعها أرمنياً بالكامل وكانت في الجامعة تعرف بإسم آنوش أما أسمها الكردي فهي لا تستعمله إلا على أوراق الامتحانات.

وتطوعت في الهلال الأحمر منذ السنة الأولى في الكلّية، وخضعت لدورات تدريبية ولم يدر في خلدها ان يحدث لسوريا ما حدث ولكن إرادة الله غالبة.

تخرجت من الجامعة ولم تخرج عن دائرة الهلال الأحمر ومعها بعض الأصدقاء والصديقات من كلّيتها واتسعت دائرة الانقاذ وتعرضت سيارتها للقصف مرتين ونجت وقادها قدرها الى عفرين حيث اتسعت دائرة الانقاذ والاسعاف وبالتالي تم ترقيتها لتصبح رئيسة مجموعة الانقاذ، تجلس أمام السائق وتضع السيروم وتحقن المخدر وتباشر الاسعاف الأولي وقطع النزيف ونقل الدم، وفي الخلف اثنان من المسعفين يحملون الجرحى الى السيارة التي تحولت الى سيارة موتى وبإمتياز.

ذهبت السيارة وهي تحمل ما تحمل وبقيت سارة في شيء يشبه المشفى الميداني وهو ليس أكثر من حفرة واسعة تحت الأرض فيها بعض الأسرّة وبعض المتطوعين واسياخ معدنية بدائية لحمل أكياس السيروم وشواحن للإضاءة، وكانت سارة تساعد قدر طاقتها الى ان نفد كل شيء وكانت تضطرّ لسحب ابرة السيروم من يد جريح وتغطي وجهه ليفهم المسعفون المتطوعون انه ينبغي إخراجه من المكان.

تم استهداف سيارة الاسعاف في احدى جولات العودة، فاحترقت بالذين فيها وبقيت سارة في تلك الحفرة تبذل جهود غير مجدية…

وجاء من يطلب منهم الصعود لتناول طعام الافطار، وخرجت سارة من الحفرة ومعها طبيب محليّ متطوع وهو من عفرين سبقها الى الأعلى وافسح لها مكان جلست فيه القرفصاء وفي الدائرة آخرين ومعظمهم من المتطوعين، والى يمينها كأس من الشاي الساخن وصحن فيه بعض الجبن وآخر فيه بعض الزيتون ورغيف من خبز الصاج المشروح، وجلس على كرسي قريب الحاج بدر ويبدو انه من الأعيان، فسألت عن اسمه فقالو لها هو الحاج بدر ابو عبد الله، فنظرت في عينيه فبادرها بالكلام.

ـ هي ارادة الله يا ابنتي لقد احترقت السيارة بمن فيها ولم نستطع إنفاذ أحد
ـ نعم انها ارادة الله ولكن كيف سأرجع الى حلب؟
ـ ستبقين عندنا يا ابنتي الى ان يدبّر الله منفذاً…من بقي لك في حلب؟
ـ أمي وأبي و بيتنا والكثير من الذكريات
ـ إبنة من أنت؟
ـ انا سارة وكنيتي عبد الرحمن وألقّب بوردة الصحراء العنيدة، وهذا اللقب يستهويني، واسم والدي عبد الله وهو مزارع ولنا أراضٍ في منبج يديرها أبي لكن وفي الآونة الأخيرة لم يعد يغادر حلب وجدّي لوالدي هو موسى عبد الرحمن أبو سليم.
ـ توقفي توقفي بالله عليك…انتم من هنا أصلكم من عفرين وليس من منبج
ـ نعم أعرف ذلك وكان البحث عن أصول عائلتي هو من الاهتمامات بعد مسألة الهلال الأحمر وشجون الاهلال الأحمر.
ـ وصلتي يا ابنتي …هل تقبلين بالذهاب معي الى دار أهلي حيث يعيش والدي وهو رجلٌ مسنٌ ومقعد ولا يستطيع مغادرة بيته فلقد بلغ ما بلغ من العمر وهو يعرف جدك موسى ابن عبد الرحمن أبو سليم…سنذهب لنسأله فهو يعرف كل شيء.
ـ هل نستطيع الذهاب الآن؟
ـ في الحال ولكن بعد ان تتناولي طعامك
ـ لقد شبعت والحمد لله …لنذهب الآن ايها العم.
ـ محمود … محمود ظاظا…انا محمود ووالدي يدعى ميران ووالدتي تدعى هيفين.

على الأطراف الشرقية للبلدة وعلى بعد مسيرة نصف ساعة سيراً على الأقدام منزل بني بالأحجار وفي باحته دالية عنب وفي الوسط بحرة ماء لا تجري فيها الماء وابواب خشبية مقشرة بقي عليها بعض الطلاء الأزرق الباهت…قال محمود…هذا بيت أبي ويعيش فيه مع أمي…

ـ ودخل محمود الدار واتجه الى غرفة والده واتجه الى السرير حيث النافذة المفتوحة التي ينساب منها هواء عليل…امسك يدا والده وقبلهما
ـ كيف حالك يا أبي؟
ـ الحمد لله يا محمود…كيف حالك وكيف حال اخوتك
ـ الحمد لله يا أبي كلنا بخير…جئتك ببعض الأغراض وجئتك بضيفة تربطنا بها قرابة…تعالي يا سارة…هذه سارة يا ابي ابنة عبد الله ابن موسى ابن عبد الرحمن
ـ عبد الرحمن الشاهين؟؟؟
ـ نعم يا جدي …عبد الرحمن الشاهين…عبد الرحمن الشاهين هو والد جدي موسى
ـ رحمة الله عليهم جميعاً…إن قبر الشاهين هنا في أرضنا…في مقبرتنا مقبرة آل الظاظا الى جانب قبر والدي خاندان الظاظا وهو كان رئيس عشيرتنا وكان محارب ذو بأسٍ شديد…سأطلب من محمود أن يأخذك لزيارة قبر جدك…بعد الغذاء وبعد ان تتناولوا قسطاً من الراحة.
ـ ليس جدي بل والد جدي ايها الجد ميران
ـ بالتأكيد بالتأكيد فأنت صغيرة
ـ حدثني عن عبد الرحمن والد جدنا ايها الجد ميران.
ـ نعم كان صديقاً لوالدي خاندان الظاظا رئيس عشيرة الظاظا ومن بطانته، جاء الى ديارنا وهو طفل وتربى هنا في كنف عائلة الظاظا وكان الصديق الوفي لوالدي خاندان ولم يفترقا يوماً حتى الممات وهم اليوم متجاورين تحت التراب.
هل ولد هنا في عفرين؟
ـ لا يا ابنتي هو غريب وليس كردياً…هو من الأطفال الأيتام من الأرمن…
ـ هو ليس من عفرين إذاً
ـ لا ليس من عفرين هو من عينتاب من غازي عنتاب كان قد تم اخراج الأرمن الذين كانوا يسكنون غازي عينتاب في عام المجزرة الكبرى 1915 وتم قتل الكثيرين منهم على بعد ساعة مسير من عينتاب حتى احتلت الجثث الطريق كله، وكان عبد الرحمن يحكي لأبي انه تم جمع الأطفال ووضعهم في عربات

تجرها البغال لتوزيعهم على دور الايتام بعد عرضهم على الأهالي ليأخذوا منهم حاجتهم، بشرط ان تتم تربيتهم تربية اسلامية، وكان لعبد الرحمن خصلة شعر بيضاء في مقدمة رأسه، وكان يقف في العربة ويداه تمسكان بالأعمدة الخشبية لكي لا يقع…ومر فارس ايزيدي هو من ابناء عمومتنا وهم الشواهنة الذين بقيوا على دين الأجداد واشترى عبد الرحمن وحمله معه الى عشيرته، وكان مأمور العربة قد أطلق عليه اسم عبد الرحمن وتم قيد هذا الاسم في دفاتر السوقيات التي ستسلّم لاحقاً الى دواوين الحكومة العلية، ولم يبق عبد الرحمن بضعة أيام عند الشواهنة حتى علم الشواهنة ان الحكومة العليّة تريد استرداد كافة الأطفال الأرمن الموجودين في العشيرة لأن افراد العشيرة ليسوا مسلمين بل ايزيديين، وذلك لتسليمهم الى دور الأيتام العثمانية، وكانت هذه خدعة كبرى لأن دور الأيتام لم تعد تستطيع استيعاب أحد، وأيقن الشواهنة أن الأطفال ذاهبون للقتل…لذلك ارسل ابناء عمومتنا الشواهنة الأطفال الذين بحوزتهم الينا هنا في عفرين ورفضوا تسليمهم للأتراك.

ـ هل كان يعرف اسمه الأرمني؟
ـ نعم كان يعرف وكان واعياً تماماً وفي التاسعة من عمره، ويعرف اسم أباه وأمه وإخوته وكل افراد عائلته ولكن هذه الأسماء كلها أرمنية وصعبة الحفظ…وبقي الوضع على ما هو عليه الى ان تآلف مع اسمه الجديد عبد الرحمن شاهين
ـ اريد أن أعرف اسمه الأرمني واسم عائلته.
ـ دعيني أستثير ذاكرتي الهرمة يا ابنتي فلعلها تساعدني على تذكر شيء…اللهم صلي وسلّم على سيدنا محمد…نعم نعم … نعم تذكرت…لقد كان عبد الرحمن يصحب ابي والجماعة في رحلات الى تركيا ويعبرون الحدود، بقصد التجارة وشراء البضائع وقد ذهبوا عدة مرات الى غازي عينتاب ومرة دخل عبد الرحمن الى دار أهله عنوة فرأى فيه عائلات تركية وحدث شجار واستدعى الساكنون الجدد الدرك وهرب ابي وعبد الرحمن ومن معهم وعادوا ادراجهم الى عفرين…وغضب جدي خاندان وأنذر أبي وتوعده وطلب منه عدم مرافقة عبد الرحمن عند الذهاب الى غازي عنتاب.

ولكن والدي لم يأبه لهذا التأنيب وأصطحب عبد الرحمن من جديد وذهبوا هذه المرّة لزيارة الكنيسة الأرمنية التي كان يرتادها أهل عبد الرحمن واسمها كنيسة المخلّص وهو عيسى عليه السلام، وكانت للأسف في حالة يرثى لها وقد تم تحويلها الى مستودع للخمور ويرتادها اللواطيون في الليل…فخرج عبد الرحمن من الكنيسة وهو في أسوأ حال، وطلب من والدي البقاء حتى صباح اليوم التالي وفي اليوم التالي قصد عبد الرحمن المقبرة وزار قبر العائلة في غازي عينتاب وكان يعرف موقعه وهو في أقصى الشمال الشرقي من المقبرة، وهو قبر كبير يدعى بالمغارة ويتم دفن كل افراد العائلة فيه ويتم

نقش اسماء ساكنيه وتاريخ ولادتهم وتاريخ وفاتهم وأخبرني ان في القبر خمسة أشخاص جده وجدته ووالد جده وشقيقة جده وشقيقة عبد الرحمن الكبرى وهي صبية قتلت غدراً…وهناك اربعة اعمدة متوّجة بتيجان من المرمر الأبيض تحمل الشاهدة وعليها في الوسط نحت لستنا مريم تقف على دائرة تمثل الكرة الأرضية التي تلفّها أفعى هي الأفعى التي أغوت ابينا آدم وأمنا حواء بمعصية الخالق وتحمل ستنا مريم بين يديها سيدنا عيسى عليه السلام وفي زوايا الشاهدة الأربعة أربعة صلبان صغيرة من المرمر الأبيض الذي تتخلله عروق زهرية ولقد استطاع عبد الرحمن انتزاع الصليب الواقع في الزاوية اليمنى الى جهة الأعلى كما قال لي…وطلب مني حفظّ هذا الصليب كأمانة.

ـ لله درك ايها الجد ميران هذه المعلومات ستقودني الى غازي عنتاب وسأرى الكنيسة والمقبرة وأعود بإسم عائلتي وبإسم جدنا عبد الرحمن واسم أباه…سأجد على القبر اسمين الأصغر هو جد عبد الرحمن (وسيكون اسم عبد الرحمن الأرمني) والأكبر عمراً سيكون اسم والد جد عبد الرحمن.

ـ على رسلك يا ابنتي لقد ضعت.
ـ ايها الجد ميران تقول ان في القبر اثنين، ولا يمكن ان يكون احدهما والد عبد الرحمن لأن والد عبد الرحمن قتل في السوقيات وبقيت جثته في الشارع، وبالتالي فإن في القبر جد عبد الرحمن ولا بد ان والد عبد الرحمن قد سمى ابنه عبد الرحمن على اسم والده وبالتالي فسأعثر على اسم عبد الرحمن الأرمني وهو الأصغر عمراً والأكبر هو والد والد عبد الرحمن وسينكشف اللغز يا جدي ولكن لم تقل لي …هل لا زال الصليب المرمر الصغير في حوزتك؟
ـ نعم يا ابنتي لا زلت أحتفظ به كذكرى من عبد الرحمن…تعال يا محمود…اذهب الى غرفة نومي وافتح صندوقي الخاص ستجد سندات الطابو المتعلقة بأراضينا وستجد تحتها الصليب المرمر…احضره الى هنا…انتبه أن يقع من يدك فهناك كسر متوقف في طرفه الأيمن.
ـ يا الهي كم هو جميل يا جدي ميران.
ـ الأرمن يجيدون النحت يا ابنتي…وفي كل الأحوال فهذا الصليب لك…وسأعتبر أنني أديت الأمانة.
ـ اشكرك يا جدي…يجب ان استعد للرحيل.
ـ الى أين ستذهبين يا إبنتي ؟
ـ لا أعرف يا جدي سأبقى اليوم هنا وسأقصد تركيا في الغد، سأذهب الى الهلال الأحمر وسيتكفلون بي هناك فنحن منظمة عالمية ولا نتبع لأحد …فلقد مللت هنا من قصص الموت وسيارات الاسعاف أشعر بالاختناق …سأذهب الى تركيا وافتح هناك صفحة جديدة لا أعرف لونها.

وفي صباح اليوم التالي رافق محمود سارة الى الشريط الحدودي ومن نقطة معينة دخلت الحدود التركية وتم استقبالها من قبل شباب من الكرد رتبوا الأمر مع محمود على الجوّال وتركها حتى ابتعدت وهي تلّوح له بيدها، وكان يدور في خلده الوصف الذي عرفه عنها سارة وردة الصحراء العنيدة… وعاد من حيث أتى.

كانت الرحلة الى مدينة كللس التركية، طويلة ومتعبة جداً بالنسبة لسارة، وعندما وصلت التحقت هناك بالهلال الأحمر التركي وخصصت لها غرفة في مبنى كبير وتم فرزها الى مخيم للنازحين السوريين لتعمل في الاسعاف وفي المستوصف العائد للمخيم.

كانت تعود الى غرفتها في المساء تشاهد الفظائع التي تحدث في سوريا على التلفاز وتسمع بعض الموسيقي وتنام وقد أخذ منها التعب كل مأخذ…ماذا حدث لسوريا؟…شيء عصي على الفهم.

تم تزويدها برقم تركي اشتراه الهلال واستطاعت الاتصال من جديد عبر وسائط الاتصال الاجتماعي بكل اقربائها وأصدقائها، كانت الحياة تمرّ بشكل رتيب واستطاعت الاتصال بأمها في حلب وبأبوها، وحرضت والدتها على ترك حلب وموافاتها الى تركيا، ولكن امها رفضت العرض متذرعة بحجة عدم ترك زوجها خاصة وان زوجها لا يريد مغادرة بيته في حلب، وتحدثت سارة مع والدها الذي رفض عرضها وقال لها: الحجر الصغير وزنه في مكانه قنطار…وساءت الأوضاع كثيراً في حلب وكان والد سارة يقدم العذر تلو العذر لا يريد ترك بيته في حلب، وجاءت سارة الى حلب في ظروف سيئة جداً في محاولة لإقناع الوالد بالسفر الى تركيا…وتعرفت في الطريق الى محام تركي من أصل كردي يدعى جومرد البوشي كان يريد الذهاب الى كردستان العراق وفي الطريق تحدثت سارة مع المحامي في شؤون مختلفة وشرحت له قصتها ومسعاها واعطته عنوانها في كللس ورقم جوّالها التركي واتفقا ان يجتمعا في كللس ووعدها بالمساعدة في ما يتعلق بقصتها التي لا يشغلها عنها شاغل وهي البحث عن أثر يدلّها الى أصلها وأصل أسرتها، واستغرب المحامي هذا الاصرار في العثور على خيوط لقصة تعتبر خطرة ومهينة على الرغم من مرور قرن كامل من الزمان على أحداثها، .

في حلب طلبت من والدها ووالدتها العودة معها الى تركيا، ولكن والدها ظلّ على موقفه لا يريد ترك داره في حلب ولا أملاكه في منبج ، وبقليل من التوسلات سمح الأب للأم
]بأن تذهب الى تركيا مع ابنتها…وعادت سارة الى كللس مع أمها وبمساعدة الشباب الأكراد…وفي كللس سكنت الأم مع ابنتها، وكانت سارة تعود الى البيت لتجد أن أمها أعدت لها الأكلات التي تحبها…ولكن تمزقت عائلة سارة الى اربعة ~ أقسام الوالد في حلب والأخ الوحيد في هولندا وهي وامها في كللس…ولم يمض شهر على فراق الوالد حتى اتصل بها أصدقائها من الهلال الأحمر ليعلموها ان بيت أهلها في حلب سوّيَّ بالأرض فسألت عن والدها فأعطى أحد المسعفين في الهلال موبايله

الى متطوعة كانت الصديقة الحميمة لسارة …وأعادت سارة السؤال فوصلها الجواب الآتي: لم يتعذب…جمعنا أشلائه من بين الأنقاض ووضعناها في غطاء السرير المصنوع من الصوف الأحمر وجدناه في ركام بيت أهلك ودفنّاه في الحديقة المواجهة لبيت أهلك وتحت شجرة الكينا وهي الشجرة الأقرب الى باب البيت … صليّ من أجله لقد كان أب صالح لإبنة صالحة لازلنا نفتقدها هنا.

رتبت وردة الصحراء العنيدة زيارة الى حلب على الرغم من الاوضاع السيئة وصعوبة اختراق الحدود التركية في الذهاب وفي الإياب، ذهبت وأخذت معها أمها.

تحت شجرة الكينا صلتّ على قبر أبيها بعد ان أخرجت الصليب الوردي من حقيبتها وزرعته في التراب وتناولت ابريق من الماء جلبه ابن الجيران وافرغت محتواه على الصليب وعلى تراب القبر ، وبكت أمها وأبكت الجيران وانتهى بها المطاف وأمها معها، في دار مجاورة ناموا فيها حتى صباح اليوم التالي.

بذل الشباب الأكراد غاية الجهد في اعادتها مع أمها الى كللس وكانت المخاطرة كبيرة فلقد وجدوا ما يشير الى أن هناك حقول ألغام ولكن ارداة الله كانت الى جانب وردة الصحراء العنيدة وأمها ووصلوا الى كللس بسلام.

على باب البيت وفي الجهة العلوية وجدت بطاقة زيارة سقطت عند فتح الباب ومكتوب في الخلف السلام عليكم انا المحامي جومرد البوشي حضرت ولم أجدكم يرجى الاتصال لدي انباء طيبة.

وسارعت للإتصال بجومرد وقال لها: انا عملت على طريقين الأول هو تتبع مسار جدك قبل ذهابه الى سوريا والطريق الثاني هو متابعة سجل النفوس ولي صديق هناك، وكلفته بمتابعة قيود من يحملون اسم عبد الرحمن ممن تم ترحيلهم من غازي عينتاب الى سوريا…واقترح ان نذهب في الغد لمقابلة ما بقي من عشيرة ايزيدية هي الشواهنة وهؤلاء كما تقولين هم الذين اشتروا عبد الرحمن وهم الذين ارسلوه الى الشام.

في اليوم التالي جاء جومرد بسيارته واصطحب سارة وامها وذهب بهم الى غازي عينتاب وهناك وعلى مشارف المدينة وفي مسار متعرج دخل بسيارته الى قرية مهملة وهناك ركن سيارته بالقرب من احد البيوت وخرج أهل البيت ليرحبوا به فلقد كانوا يعرفوه.

دخل البيت ومعه سارة وامها وتم ادخالهم الى غرفة قصية فيها شيخ في الثمانين من العمر ينام في سرير كبير مشغول من المعدن والنحاس وعلى يساره نافذه تطل الى الحديقة حيث دالية العنب وفي الأفق سور البيت تجتازه بعض الطيور التي لا همّ لها وكان الشيخ يرقبها دون ان تبدوا على اسارير وجهه أي شيء.

اقترب المحامي من سرير الشيخ وقال وهو ينظر باتجاه سارة…هذا هو شيخنا وبركتنا زعيم الشواهنة اليوم وهم انسباؤنا.

وقصّ جومرد القصة على الشيخ الذي استمع لجومرد حتى النهاية ثم نظر بإتجاه ساره وامها وقال: اعلمي يا ابنتي ان والدي هو الذي اشترى عبد الرحمن وجاء به الينا هذا ما كانو يحدثوني به فأنا لم أكن في هذه الحياة بعد ولكن سمعت من أمي ان والدنا هو الذي أحضر عبد الرحمن الى البيت وكان لعبد الرحمن خصلة شعر بيضاء في مقدمة رأسه ولم يمكث عبد الرحمن إلا قليلاً حتى صدر أمر من الحكومة العلية بإستعادة الأولاد الأرمن الذين كانوا في حوزة الشواهنة ونحن منهم وعبد الرحمن في حوزتنا، ونحن كما تعلمين ايزيدين ولم يتغير حالنا اليوم حيث لا زلنا ايزيديين في الباطن ومسلمين في الظاهر، وفكرّ أبي بالمكيدة وتيقّن بأن مصير عبد الرحمن هو الموت لذلك تم تهريب عبد الرحمن الى شواهنة عفرين في سورية، وعبد الرحمن له اسم ارمني مذكور في سجلّنا سجل الشواهنة، وكانت والدتي قد بكت ولطمت لأنها أحبت الطفل ورفضت ان يتم تسليمه الى قاتلي شعبه، وهذا السجلّ لا زال محفوظ لدينا حتى اليوم ويحوي الحوادث المهمة التي مر بها الشواهنة وأهمها الزواج والولادات والوفيات والأرث والهجرة ، وفيه قيد بيد أبي وأذكر أن لعبد الرحمن ذو خصلة الشعر البيضاء حصة فيه، وهو هنا في هذه الخزانة، ولدينا اسم عبد الرحمن الحقيقي واسم والده وعائلته، فنحن نعرف أهله وكان والده تاجر سجاد مشهور وكنا قد اشترينا من متجره ديناً سجاد فرشنا به دار الضيافة ولم يتثنى لنا أداء ثمنه فلقد تم قتل والد عبد الرحمن في مشارف غازي عينتاب بعد الترحيل.

ـ هذا هو السجل ايها المحترم
ـ افتح الصفحة الأولى، والتي بعدها، استمر، استمر…توقف هنا…نعم هنا…انظر الى اسفل الصفحة…نعم هنا إقرأ ما تراه.
ـ هذا بالخط العثماني العربي وهو من اختصاصي لقد درسناه في الجامعة وهو صعب جداً ولكن يمكنني قرائته….وستساعدني سارة…تفضلي يا سارة.
ـ نعم سأساعدك لأننا في الشام لم نستغن عن الحروف العربية ولن نستبدلها باللاتينية أبداً لا اليوم ولا في أي يوم آخر.
نعم الى اقصى اليسار هذا واضح عبد الرحمن اسمه آبيد والده الحاج آرمان ناظاريان تم ارساله الى شواهنة عفرين في غرة حزيران من العام 1915…والده دائن لنا باثنان وثلاثون ذهبة وهو المتبقي من قيمة سجاد دار الضيافة.
ـ دعني أقبل يديك الطاهرتين أيها الشيخ لقد وضعنا كرمكم في بداية
الطريق الصحيح…أما بالنسبة للمتبقي من قيمة السجاد فهو هدية لكم من آل ناظاريان.
ـ هل يكفي هذا الذي حصلنا عليه يا سارة؟
ـ لا لا يكفي …أريد الذهاب الى المقبرة ورؤية قبر العائلة.
ـ ولكن للمقبرة سور عالٍ ولا يمكن انتهاك حرمتها.
ـ لا نريد انتهاك حرمتها نريد أن ندخلها بشكل نظامي ومن بابها
ـ هيهات يا سارة فلمقبرة الأرمن في عينتاب وضع خاص فهي أملاك وقفية ولم تتم مصادرتها لأنها لا تدخل في حيز أملاك الغائبين ولم يشملها هذا القانون الجائر الذي جرّد الأرمن من كل أملاكهم بعد العام 1915 لأنها أموال أوقاف وهي اليوم موضع نزاع قضائي مع الجالية الأرمنية في اميركا وقد صدر الأمر بالتحفظ عليها وتم ترقيم القبور كلها وتم عمل قيود لها وهناك حارس قضائي تم تعيينه من قبل الدولة وبالتالي لن يسمح لنا بدخول المقبرة.
ـ سندخلها ايها السيد جومرد سندخلها وبشكل قانوني تماماً بمساعدتك أو بمساعدة آخرين.
ـ هذا يتطلب تقديم مذكرة قضائية للمحكمة التي اصدرت قرار التحفظ والمنع وهذا سيدخلنا في جدل قد يستغرق ستة أشهر.
ـ وردة الصحراء العنيدة ليست مستعجلة ولديها الوقت …ومنذ الغد سأنتقل الى غازي عينتاب انا وأمي …سأجرب أن أعيش هنا كما فعل اجدادي فهنا جذوري.
ـ وماذا سنفعل خلال الستة اشهر القادمين يا سارة؟
ـ سنبحث في سجلات النفوس لدى صديقك وسننتظر لتأكيد المعلومات التي حصلنا عليها حتى الآن…سأطلب نقلي الى غازي عنتاب على الفور، وسنلتقي كثيراً ايها السيد جومرد.

انتقلت سارة وامها الى غازي عنتاب وكانت تذهب لزيارة كنيسة ارمنية تم تحويلها الى مطعم، وتصطحب أمها الى المكان حيث توجد حديقة كبيرة يتوسطها نصب أثري هو منهل ماء زلال وعلى حجارته كتابات أرمنية تم تخريب أجزاء منه قبل ان تتدخل هيئة الآثار لحمايته.

اعتقدت سارة ان هذا المنهل يعرفها وتعرفه ويعرف أهلها ويعرفونه ونسجت في خيالها قصص صدقتها كلها واعتقدت ان عائلتها كانت تفترش العشب الأخضر أيام الأحاد وتهيأ لها والد جدها واولاده وأحفادة والشواء ورائحته.

كانت تجلس على كرسي خشبي هو الأقرب للمنهل وتجنح بخيالها، فتجلس مع الجالسين وتأكل معهم وتشرب مما يشربون وكانت تنظر الى المنهل وتبتسم، فهي تشعر بما يشعرون وتسعد لصوت تساقط الماء، وتنهض لتدخل المطعم تنظر الى الرسوم المقدسة على الجدران والتي تم تشويهها بالكامل وتشم رائحة البخور وتسمع القداس وصوت الكاهن وموعظته وتسمع أفراد الكورال وهم ينشدون التراتيل الكنسية، وتشعر ببعض الاختناق وتستسلم لدموعها وتعود مع امها الى بيتها وتنام في سريرها باكراً تنظر الى قمر عينتاب وتمنّي نفسها أنه ذات القمر ونفس الوجه المضيء الذي كان يظهر لأجدادها تراه هي الآن كما كان يراه جدها ووالده وجده وكل نساء العائلة والأبناء وكل الأحفاد من الصغار…ولكن اين هم الآن وأين ذهبوا…ضحايا الابادة المنسيين الضحايا المجهولين لمجزرة مروعة لم تعرف الانسانية مثلها…مروعة لأن وقودها كان ثلاثة ارباع الشعب الأرمني وكل هؤلاء لا يعرفون السبب ولا يعرفون الذنب الذي ارتكبوه والذي دفعوا حياتهم ثمناً له.

كانت الشهور تمرّ رتيبة فلا أخبار إلا تلك الحزينة تصل من حلب ومن عفرين ومن منبج وما جاورهما، قصص الموت تقتحم عالمها، والكوابيس تعود، فلقد كانت تصلها أخبار العاملين في الهلال السوري من أصدقائها الذين يتم استهدافهم هم وسياراتهم وما فيها…دخلت دورات لتعلم التركية وتفوقت في هذا المجال، لقد كانت تعرف انهم أعداء أهلها وهي لا تحبهم ولكنها أصرت أن تتعلم لغتهم لتفهم كل ما يتعلق برسالتها.

كانت تتحدث مع أخيها في هولندا وتتلقى الوعد تلو الآخر بأنه سيتم قبولها وقبول أمها كلاجئتين في هولندا ولكن وفي كل مرة كانت الأمور تسوء وعرفت ان معاملة اللجوء غير ممكنة بالطريق القانوني حيث لا بد من الاستعانة بمهربين يدخلونها هي وأمها الى اوروبا ليصبح اللجوء أمر واقع.

لم ينجح أخاها إلاّ بإرسال بعض المال الذي كان يعينها في تدبير أمورها… أما مسألة الأذن القضائي بزيارة المقبرة فلقد كان يتعثر وطلبت المساعدة من مديرها في الهلال الأحمر التركي وقال لها انه سيحاول مساعدتها إكراماً لمسألة مشتركة فلقد كانت جدته تنحدر من أصول أرمنية وكانت قد اسلمت هي وأفراد عائلتها ونجت من الموت المحتم.
في يوم ربيعي جميل اتصل جومر وأخبرها بأنه يجب عليها ان تعد نفسها في الغد للذهاب الى مكان مهم ….سألته الى أين؟ قال لها لنترك الأمر مفاجأة…أجابت ولكني أعرف الى أين…قال: لا لا أعتقد قالت: الى مأمور النفوس.

في اليوم التالي ذهبت سارة مع جومرد الى أمانة النفوس، وقصدا صديقه الذي يعمل في المديرية الذي استقبلهما في مكتبه وبعد التعارف سأل الموظف سارة: هل يمكنني معرفة سبب الإلحاح برؤية السجل الذي تحدث عنه السيد جومر؟

أجابت سارة: نعم يمكنك…ارجو ان تصغي إليَّ.
ـ هل انت تركي؟
ـ نعم
ـ وهل انت مسلم؟
ـ نعم
ـ تقول قطعة النحاس التي على طاولتك هنا أن أسم حضرتك عثمان عابدين فهل أسمكم عثمان ونسبتكم عابدين؟
ـ نعم اسمي عثمان سمّاني والدي على اسم جدي واسم عائلتي عابدين
ـ حسناً أرجو أن أن تتخيل، مجرد تخيّل، أنك لست تركي، ولست مسلم، وأسم جدك ليس عثمان واسمك بالتالي ليس عثمان واسم عائلتك ليس عابدين …الآن اخبرني ماذا سيحدث لك؟
ـ لا أعرف ولكن يبدو لي أن هذا لغز فكيف لي أن أعرف….
ـ لا تعرف حتماً ولكن أنا أعرف ستتحوّل الى انسان شقي وستكون ملحّاً أكثر مني لمعرفة الحقيقة.
ـ حسناً سأخبرك هناك ثمانية أطفال وصل سبعة منهم الى دور التيتم أما الثامن فلقد تعهده شواهنة غازي عينتاب، وقيدّ مأمور النفوس معلومات تخصّ ثلاثة أطفال لأنهم كانوا يعرفون أسمائهم وأسماء أسرهم اما الخمسة البقية فكانوا دون الرابعة من العمر وبالتالي فليست لهم اسماء سابقة… كل ما سنراه حالياً هو صور على المايكروفيلم لأن السجلات الأصلية تم ترحيلها الى أنقرة منذ عشر سنين وسنرى الآن نفس الصور المؤرخة في الأول من حزيران من العام 1915
ـ يا الهي، كيف عرفت اننا بصدد البحث عن هذا التاريخ بالذات؟
ـ الأستاذ جومرد طلب ذلك…ونحن في هذه الآونة بالذات تردنا طلبات مماثلة…يرجى المتابعة على الشاشة لنرى الصيد الثمين الذي كلفني ثلاثة أيام من البحث وهذا بخط مأمور النفوس أو من ينوب عنه في غازي عينتاب والوثيقة أصلية ومكتوبة بخط اليد.

تم ترحيل الأطفل التالية اسماؤهم الى دور التيتم العثمانية في غازي عينتاب

لائحة 1 حزيران عام 1915
1 ـ محمد …اسم الأب: غير معروف أسم الأم: غير معروف تولد غازي عينتاب عام 1911… بعد الهداية مأوى الرحمة عينتاب
2 ـ آيدين …اسم الأب: غير معروف أسم الأم: غير معروف تولد غازي عينتاب عام 1911… بعد الهداية مأوى الرحمة عينتاب
3 ـ فيهيم …اسم الأب: غير معروف أسم الأم: غير معروف تولد غازي عينتاب عام 1911… بعد الهداية مأوى الرحمة عينتاب
4 ـ جولباهار…اسم الأب: غير معروف أسم الأم: غير معروف تولد غازي عينتاب عام 1909… بعد الهداية مأوى ذات النطاقين عينتاب
5 ـ عبد الرحمن وهو الاسم بعد الهداية…اسم الأب: آرمان نازاريان أسم الأم: غير معروف تولد غازي عينتاب عام 1906… الاسم قبل الهداية:آبيد…عشيرة شاهين الكردية في عين تاب…
ـ توقف يرحم الله والديك…هذا جدنا هذا جدنا آبيد آرمان نازاريان كان عمره تسع سنوات عندما تم تسليمه لعشيرة الشواهنة…أشكرك ايها السيد…ولكن هل لهذا القيد تتمة لديكم؟
ـ لا ليس لهذا القيد تتمة لأن الأرشيف نقل الى انقرة كما أخبرتك…ولا بد انه قد تم قيده كمتوفى بعد بلوغه المئة سنة من العمر وهو العمر الافتراضي الأعلى، حيث لا يجب ان تكون هناك قيود مفتوحة لمثل حالته التي نفهمها أنا وأنت يا آنسة سارة.
ـ نعم أكيد ولكن الرجل توفي في سوريا ولم يبلغ المئة من العمر أبداً !
أرجوك يا انسة سارة لقد انتهت المقابلة…ولولا الأستاذ جومرد البوشي كانت لن تحدث أبداً.
طيب طيب أشكرك أشكرك ولكن هل تسمح لي بتصوير هذه الوثيقة؟
ـ هذا سيكلفني منصبي يا آنسة سارة
ـ حسناً سأطلبها عن طريق المحكمة
ـ على الرحب والسعة أهلاً بكم.

في طريق العودة الى المنزل كانت تنتاب سارة مشاعر متناقضة…وتقول في نفسها…اذا فهذه هي الحقيقة وهي بين يدي الآن…سارة عبد الله عبد الرحمن…هذا اسم لا يناسبني…أنا آنوش آبيد ناظاريان…أنتمي الى هنا…وجعي هنا…حياتي تبدلت بعد ان قلبها الاتحاديون رأساً على عقب…منذ أن كنت في السابعة كنت أحلم واستيقظ مذعورة لأنها لم تكن أحلام عادية…كانت كوابيس والكوابيس لا يحتملها الأطفال…بقي لي أمر واحد في هذا البلد وبعد ذلك فراق بلا لقاء.

في اليوم التالي اتصل المدير بسارة وقال لها تعالي الى مكتبي فهناك أنباء سارة.
ـ نعم ايها السيد المدير
ـ دكتورة سارة احضرت لك مذكرة تتيح لك زيارة مقبرة الأرمن بصحبة
أربعة أشخاص تختارينهم في غازي عينتاب لمرّة واحد فقط
ـ يبدو أن هذا أمر قضائي
ـ ليس أمراً قضائياً هو أذن زيارة لمرة واحدة فقط…إن أحببت سأرافقك
ـ نعم لي الشرف بذلك سنذهب في الغد ومعنا الورد والبخور والشمع على عادة أرمن حلب عند زيارتهم للمقابر، وستكون معي أمي وحضرتك والأستاذ جومرد.

في صباح اليوم التالي توقفت السيارة على باب المقبرة فتبين انها كبيرة جداً وفيها يونان أروام وسريان وكلدان وآشور وبعيداً وفي القطاع الشرقي هناك مقبرة الأرمن ولها سور مستقل ضمن الأسوار وباب معدني خلفه باب خشبي مهلهل…وتم فتح الباب المعدني ودخلت سارة ومن معها وقادتها خطواتها الى الزاوية الشمالية الشرقية من المقبرة وتسمرت قدماها في الأرض واقتربت قليلاً …وصاحت ايها الرب العظيم…الآن وبعد 100 عام أرى واحدة من عجائبك…وركعت على الأرض ووقفت امها خلفها.

هذا هو قبر عائلتي هذا هو القبر الذي قصده عبد الرحمن لعدة مرات ولم يدفن فيه بالطبع لا هو ولا أباه الذي تم قتله في الطريق، لقد تعلمت قليلاً الكتابة بالارمنية بفضل صديقاتي في جامعة حلب ولكنني اجد بعض الصعوبة في فك هذه الرموز المتسخة ومن المؤسف ان أجد ان الشاهدة محطمة لا بد انها تلقت ضربة قوية بالمطرقة في وسطها ولكنها متماسكة هذا القبر كبير ويدعى بالمغارة ويتم دفن كل افراد العائلة فيه ويتم نقش اسماء ساكنيه وتاريخ ولادتهم وتاريخ وفاتهم.

علمت من كبير شيوخ الشواهنة أن في القبر خمسة أشخاص جد آبيد وجدته ووالد جده وشقيقة جده وشقيقة آبيد الكبرى وهي صبية قتلت غدراً…هذه هي الأعمدة الأربعة المتوّجة بتيجان من المرمر الأبيض وهي الأعمدة التي تحمل الشاهدة المحطمة.

وهذا هو نحت للعذراء مريم تقف على دائرة تمثل الكرة الأرضية التي تلفّها أفعى وهي الأفعى التي أغوت ابينا آدم وأمنا حواء بمعصية الخالق وتحمل العذراء مريم بين يديها السيد المسيح الطفل.

يا الاهي هذه هي الصلبان الثلاثة المتبقية على القبر والمشكّلة من المرمر الأبيض الذي تتخلله عروق زهرية أما الرابع والذي انتزعه جدنا آبيد فهو هنا في حقيبتي ولقد استطاع آبيد انتزاع الصليب الواقع في الزاوية اليمين الى جهة الأعلى والذي يبدو مفقوداً على السطح هنا.

ـ لقد احضرت ابريق من الماء سنريق محتواه على الشاهدة وعند ذلك ستتضح الرؤية
ـ نعم اشكرك…بالفعل…انا أستطيع القراءة الآن…يا الهي استطيع فك هذه الأحرف لقد نقش هنا الاسم الآتي:

آرمان هاكوب ناظاريان تولد صامصون عام 1800 وتوفي في غازي عينتاب عام 1865 لا بد أن هذا يشير الى والد جد جدنا آبيد
آبيد آرمان نازاريان تولد عينتاب 1835 وتوفي فيها 1905

وهذا هو جد جدنا آبيد…ولأن والد جدنا آبيد قتل في الطريق ولم يدفن هنا فإننا لا نجد له اسم على هذه الشاهدة وليكن اسمه آرمان، والشيء المنطقي الوحيد أنه أطلق اسم آبيد على ابنه وآبيد هو عبد الرحمن.

ـ سأضع هذه الورود هنا واشعل الشمع والبخور وأصلي…شكراً للرب فلقد عرفت أصلي وفصلي وعرفت أنني أرمنية…وضحية من ضحايا الإبادة…ولكن هناك الكثيرين مثلي لا يعرفون.

وصلت سارة وامها الى البيت حوالى الثامنة مساءً، وجالت في كل ما تحقق لها منذ الصباح الى المساء، وفتحت حقيبتها ولمست الصليب الحجري الذي بقي فيها، وبكت بحرقة…واستغربت أمها بكائها أشد الاستغراب وقالت لها…لم تبك على القبر يا سارة فما الذي حدث لك الآن؟

ـ لا أريد لأحد أن يعتقد بأني ضعيفة ولذلك لم ابك على القبر.
أنا لم أعد سارة يا أماه أنا آنوش ناظاريان انا أرمنية واشعر بالدم الأرمني وهو يتدفق في عروقي.

ـ ونامت آنوش على الثلاثية في الصالون والتلفزيون ينقل أخبار الموت في سوريا بلا توقف…وعاد الكابوس نفسه مع القليل من التغيير …رأت آبيد صاحب الخصلة البيضاء في مقدمة الرأس رأته يبتسم وقد تغييرت تعابير وجهه الحزينة السابقة التي يستشف منها انها ملامح انسان مقطوع الرجاء.

في صباح اليوم التالي جاء جومرد وبيده باقة ورد وضعها على الطاولة وقال:

الآن وقد وفيت لك بوعدي وأوصلتك الى الحقيقة كاملة، وبجود السيدة والدتك فأنا أطلب يدك على سنة الله ورسوله.
نظرت في عيني جومرد وقالت له: صحيح نحن لم نتفق على الأتعاب ولكنني جاهزة لدفع ما تريد فقط إذهب وأكتب الفاتورة.

ـ أماه انا لم أعد انتمي الى هذه البلاد مع انها بلاد أجدادي، وأشعر أن هوائها يقتلني ومائها يسممني…لذلك تحدثت مع أخي في هولندا وقال لي انه فقد الأمل في امكانية قبولنا كلاجئين في هولندا ويبدو انهم يريدون ان نضعهم امام الأمر الواقع بمعاونة المهربين لذلك سنذهب الى اليونان بحراً ونسعى في هذا السبيل…وقال أخي انه سيرسل لنا المال وهذا أقصى ما يمكن عمله…بالنسبة لنا…وأنت يا أمي مسؤولة مني ولم يعد لي في الدنيا غيرك وانت كذلك، فاعتمدي عليّ فأنا وردة الصحراء العنيدة.

وابحر مركب مهلهل بإتجاه شواطئ اليونان واعترضته البحرية اليونانية وتحفظت على كل راكبيه وكانوا جميعاً من السوريين…وفي اليونان استطاعت آنوش العثور على موطن لجوء بمساعدة الصليب الأحمر الدولي وبتوصية من مدرائها…واقلعت الطائرة بإتجاه فنزويلا تحمل الأم وابنتها.

ـ ما هي الخطوة المقبلة يا آنوش؟
ـ أمي الحبيبة تعلمين ان هناك فرع من عائلتنا نشأ في فينزويلا .
ـ ماذا تقصدين؟
ـ سأعثر عليهم هناك وسأبدأ هناك من حيث توقفت.
ـ لم أفهم يا حبيبتي.
ـ لعائلة ناظاريان بقية في فينزويلا ونحن ذاهبون اليهم يا حبيبتي.

آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
12/07/2015

scroll to top