4292.jpg

السوريون الأرمن: موسم آخر للهجرة!

على وقع الحرب المستمرة في سوريا، يستذكر السوريون الأرمن هذه الأيام الذكرى المئوية لـ «المجزرة الأرمنية» وعمليات التهجير العرقي التي تعرضوا لها قبل قرن في تركيا، حيث شكلت سوريا لهم في تلك الأيام موطن استقرار، واندمجوا في المجتمع وساهموا في بناء الحضارة السورية طيلة القرن الماضي، موزعين بين مختلف المناطق، إلا أن وجودهم الأكبر تركز في حلب ومنطقة الجزيرة والعاصمة دمشق، فأصبحوا جزءا من سوريا، والتي يتعرضون في الوقت الحالي لعمليات تهجير منها، وفق تعبير كثيرين.

قبل اندلاع الحرب السورية، تجاوز عدد الأرمن السوريين المئة ألف، إلا أن هذا العدد تناقص بشكل كبير مع استمرار نزيف الدم السوري، الذي كان الأرمن جزءا منه، لتبدأ رحلات النزوح الداخلي، واللجوء إلى دول الجوار، والهجرات إلى الدول القابعة خلف البحار، فأنتجت الحرب خريطة جديدة للتوزع الديموغرافي السوري، يرى فيه كثير من الأرمن مشابهاً لذلك التوزع الذي أنتجته الحرب التركية ضد الوجود الأرمني، مع خلافات بسيطة، فالحرب في سوريا استهدفت الجميع، و «الأرمن جزء من الجميع بطبيعة الحال»، وفق تعبير الصيدلاني آرمين نباتيان الذي خرج من مدينة حلب واستقر مع عائلته في السويد في الوقت الحالي.

آرمين، الذي يطغى على حديثه الانتماء الوطني على حساب انتمائه العرقي أو الديني، يشير، خلال حديثه إلى «السفير»، إلى أن «هجرتنا من تركيا كانت انتقائية ضد المكون المسيحي بشكل عام والأرمني بشكل خاص من أراضي أجدادنا، أما هجرات الأرمن من سوريا فلم تكن موجهة ضد العنصر الأرمني على وجه الخصوص، فما حصل مع الأرمن حصل مع غالبية الشعب السوري، إلا أن العامل المشترك هو التدخل التركي في دعم المسلحين».
لا يخفي آرمين حنينه إلى حلب «مدينتي التي سأعود إليها». ويستذكر أيامه الخوالي، وصيدليته في حي الميدان الذي مزقت معظمه قذائف المسلحين، وهو الحي الذي كان يشكل الأرمن غالبية سكانه في المدينة التي كان يعيش فيها ما بين 60 إلى 70 ألف أرمني.

في مدينة اللاذقية الساحلية، شكلت مدينة كسب، الواقعة على التخوم التركية الرمز الأرمني الأشهر في سوريا، محط أنظار معظم وسائل الإعلام والقوى السياسية الضاغطة في أوروبا (يملك الأرمن في أوروبا لوبيات ضاغطة ذات ثقل سياسي)، خصوصا بعد نجاح «جبهة النصرة» في اقتحام المدينة بالتزامن مع الذكرى 99 للمجازر الأرمنية، والدعم الذي قدمته تركيا للفصائل التي اقتحمت المدينة، قبل أن يتمكن الجيش من استرجاعها، الأمر الذي يراه الأرمن «دليلاً جديداً على عداء الأتراك الأزلي والتاريخي للأرمن».

الصحافي السوري الأرمني كيفورك ألماسيان، الذي يعيش في لبنان مع عائلته التي نزحت من حلب، يؤكد بدوره التشابه بين ما عاناه الأرمن في القرن الماضي على يد الأتراك وبين ما يعانونه الآن.

ويقول «سمع معظم شباب الجيل الثالث والرابع من السوريين الأرمن عن المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحق أجدادهم، شاهدوا الصور وقرأوا الوثائق، لكنهم لم يتخيلوا يوماً أن يشاهدوا نفس الجرائم الوحشية من قبل العثمانيين الجدد بحق أبناء سوريا، وخاصة في مدينة حلب الشهباء». ويضيف «أصبحت مقارنة التهجير من السلطنة العثمانية قبل 100 عام مع الأحداث الحالية من البديهيات، وخاصة أن معظم الجماعات المسلحة التي تقود الحرب ضد الشعب السوري في شمال سوريا تابعة للاستخبارات التركية، وهي معروفة للقاصي والداني، أنها تقبع تحت تأثير حكومة العدالة والتنمية الإخوانية. ومن هنا يصف معظم السوريين الأرمن الرئيس الحالي لتركيا بأردوغان باشا السفاح نسبةً إلى جمال باشا السفاح».
وفي وقت شكلت فيه سوريا مستوعباً لرحلة التهجير الأولى من تركيا، توضح خريطة توزع الهجرات الحالية تشرذماً في الوجهات، رغم ارتكاز نسبة كبيرة منها نحو أرمينيا التي قدمت تسهيلات كبيرة للأرمن الذين أرادوا الخروج من سوريا.

وفي وقت فضل فيه كثير من الأرمن النزوح إلى مدن سورية آمنة (نزح كثيرون نحو الساحل السوري)، شكل لبنان بدوره مركز استقطاب مهما للمهجرين الأرمن الذين أجبروا على ترك منازلهم وأحيائهم أمام امتداد أذرع الفصائل المسلحة التي يغلب الطابع التكفيري «الجهادي» على معظمها، في حين شكلت دول الاتحاد الأوروبي والدول الاسكندنافية مقصدا آخر للمهاجرين.

وفي هذا السياق، يقول ألماسيان «خرج بعض السوريين الأرمن من البلاد نتيجة الوضع الأمني المتدهور في مدينة حلب، وذهب بعضهم إلى أرمينيا التي قدمت لهم الكثير من التسهيلات، وخاصة على صعيد الإقامات السنوية ومنح الجنسية. ولجأ آخرون إلى البلاد الأوروبية والأميركية والتي منحت بدورها بعض التسهيلات للأرمن وعملت على توطينهم».

وبرغم ذلك، يشدد ألماسيان على أن الانتماء كان ومازال لسوريا. ويقول «لو سألنا معظم السوريين الأرمن عن أحلامهم ورغباتهم، فإنهم سيجيبون: الله يرجع السلام لسوريا لنرجع على بلادنا وبيوتنا»، مؤكداً أن «السوري الأرمني يعتبر سوريا بلده الأم، شرب من مائها وعاشر شعبها، أثّـّر وتأثر من ثقافتها، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من النسيج السوري».

وفي وقت لا توجد فيه إحصاءات دقيقة لأعداد الأرمن الذين أجبروا على ترك سوريا أمام تمدد المسلحين، إلا أن التقديرات تشير إلى أن «الآلاف تركوا سوريا واستقروا خارجها»، وهو أمر يبدو أنه «يعجب الفصائل الجهادية»، التي أعلنت قبل أيام، وبالتزامن مع الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية فتح معركة جديدة لـ «تحرير كسب»، حيث اندلعت عدة معارك في محيط المدينة، قبل أن يتمكن الجيش السوري من إفشال الهجوم، والتقدم في محيط المرصد 45 الاستراتيجي الذي يحمي خاصرة المدينة الحدودية مع تركيا، الأمر الذي يعتبره السوريون الأرمن دليلاً جديدا على العداء التركي الأزلي للمكون الأرمني، وسبباً إضافياً لرحلات الهجرة المستمرة، رغم الانتماء لسوريا كوطن.

بقلم: علاء حلبي | نشر في جريدة السفير

scroll to top