3736.jpg

الوطن السورية: إبادة أم مجزرة أم أحداث مؤسفة..

مئة عام مضت على الإبادة الأرمنية ولا يزال المجتمع الدولي ينظر إلى هذه الجريمة ضد الإنسانية ويحاول أن يعرف المعرف، تارة توصف الإبادة أنها مجرد أحداث مؤسفة حدثت أثناء الحرب العالمية الأولى، نتيجة الفوضى التي دبت في الإمبراطورية العثمانية، وتارة أخرى توصف بأنها مجازر حدثت بحكم العمليات الحربية كردود فعل من بعض الجهات غير المنضبطة ومن دون رضى السلطة المركزية.

وتكبر حجم المأساة والمعاناة من خلال إنكار حقيقة وقوع الإبادة، ولقد وصف الكاتب السوري إبراهيم الخليل تلك المأساة بأنها مأساة القرن العشرين بكل المقاييس فيقول في شهادته:

لم يعرف العالم تواطؤاً كما جرى في القضية الأرمنية
ولم يذكر التاريخ عن معاملة وحشية كما عومل الشعب الأرمني
الغرب أغمضَ عينه وإن شارك بعضهم
والشرق أدار ظهره
والجيران من العرب كانوا تحت الاحتلال لا حول ولا قوة اليوم ماذا نقول عما جرى أهي مجزرة الأرمن أم الإبادة الأرمنية؟

هي نهاية الحرب العالمية الأولى وانطلاقاً من أعراف القانون الدولي المتبعة واتفاقيات لاهاي 1907 حول جرائم الحرب أصدر الحلفاء قراراً يقضي بمحاكمة ومعاقبة الأشخاص المسؤولين عن تدبير وتنفيذ المجازر Massacres في الحكومة العثمانية، ولم يكن مصطلح الإبادة متداولاً في ذلك التاريخ، لأن مصطلح الإبادة Genocide عرف في عام 1944 من المحامي البولوني رفائيل ليمكين، وبدأ التداول به بعد عام 1945 وذلك أثناء محاكمات نورنبرغ لمجرمي الحرب النازيين، وتمثلت نقاط الدفاع الألماني عن مجرمي الحرب، أن اتفاقية 1945 سنت قوانين جديدة تعرف الجرائم ضد الإنسانية، وإن تطبيق هذا القانون قبل عام 1945 يعطيه مفعولاً رجعياً وهو خرق للمبادئ الأساسية للعدالة الطبيعية (أي إنه تناقض صحة النظام العام) والحقيقة أن اتفاقية 8 آب 1945 والمعدل بالبروتوكول 6 تشرين أول 1945 عرفت جرائم الحرب بأنها: «عمليات القتل والإبادة والاستعباد والترحيل والأعمال اللاإنسانية الأخرى المرتكبة ضد المدنيين على أسس عرقية أو دينية» ولاحقاً أكدت اتفاقية 9 كانون الأول 1948 على منع جريمة إبادة الأجناس ومعاقبة مرتكبيها، كل هذه الاتفاقيات الآنفة الذكر تعتبر تجسيداً لأعراف في القانون الدولي الموجود منذ الخليقة، أي إن القوانين الآنفة الذكر لها صفة معلنة وليس لها صفة منشئة، بالمحصلة لم يتم سن قوانين جديدة بل بكل بساطة تمَ الإعلان عن أحكام كانت موجودة أصلاً في القانون الدولي.

إن الأعمال الوحشية التي ارتكبتها تركيا في عام 1915 والتي وضعت مخططاتها ونفذتها الحكومة التركية بهدف إبادة شعب بكامله والتسبب بقتل 1.5 مليون إنسان أرمني هي في حكم المؤكد إبادة جماعية بموجب أي تعريف لهذه الكلمة هذه الإبادة تعتبر جريمة بموجب القانون الدولي ولا تزال هذه الجريمة مستمرة حتى يومنا هذا من خلال إنكار تركيا لحق عودة الأرمن إلى وطنهم، وتتريك أسماء المدن والأماكن الأرمنية وتهديم الأوابد الثقافية الأرمنية مع وجود خطة ممنهجة لإزالة ما تبقى من آثار تبين وجود الأرمن، بالإضافة إلى إرغام الأرمن على العيش خارج أرضهم التاريخية، فكتب عليهم الانصهار الثقافي والتفكك الاجتماعي، كل ذلك يجعلنا نؤكد أن ما جرى للشعب الأرمني هو إبادة حقيقية وخسارة الأرمن نتيجة الإبادة خسارة مزدوجة: خسارة شعب، وخسارة وطن، ولما كانت الامبراطورية العثمانية هي التي خططت ونفذت هذه الجريمة الإبادية فإن تركيا الحالية تعتبر وريثة وخليفة الإمبراطورية العثمانية بموجب القانون الدولي، وهي بذلك تكتسب جميع الحقوق وتترتب عليها التزامات الامبراطورية العثمانية، وعليه فإن الدولة التركية الحالية تتحمل المسؤولية الناجمة عن ذلك، من دون إدانة الشعب التركي أو الأتراك كأفراد، ولا يمكننا أن نطبق مبدأ التقادم الزمني على هذه الجريمة لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة رفضت تطبيق مبدأ تقادم الجرائم زمنياً في حالة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية «اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية»، قرار الجهة العامة للأمم المتحدة بتاريخ 26/11/1986.

والجدير ذكره أن أول من استخدم كلمة إبادة هو المحامي السوري فائز الغصين في كتابه (المذابح في أرمينيا، عام 1917) وبذلك يكون قد سبق المحامي البولوني رافائيل ليمكين الذي يعتبر مبتدع كلمة Genocide في أربعينيات القرن الماضي، وإذا تمعنا في الإبادة الأرمنية نجد أنفسنا أمام جريمة إبادة مكتملة الأركان المادية والمعنوية، فالركن المادي والأداة الجرمية واضحة من خلال فرق القتل الخاصة «التشكيلات المخصوصية» التي شكلها حزب الاتحاد والترقي التركي من المجرمين وسفاكي الدماء خريجي السجون، وكانت مهمتها محصورة في قتل وتنكيل قوافل المهاجرين الأرمن أنها الأداة الفعالة لإرهاب الدولة ولتنفيذ سياسة التطهير العرقي العنصرية، أما الجانب المعنوي فهو أيضاً واضح من خلال مقررات مؤتمر سالونيك 1910 لحزب الاتحاد والترقي وفيه قرر الحزب تغيير شكل الدولة من امبراطورية متعددة القوميات إلى دولة وحيدة اللون بلون تركي فقط، من خلال اتباع سياسة تطهير عرقي Eradiction والقضاء على كل الأمراض اللاتركية، بالإضافة إلى تبني استراتيجية الطورانية التي تسعى إلى إقامة امبراطورية لكل الشعوب الناطقة باللغة التركية من الأناضول إلى أقاصي آسيا شرقاً، وكانت أرمينيا والشعب الأرمني عائقاً أمام قيام هذه الدولة، فكان من الضروري إزالة أرمينيا من الخريطة وإزالة الأرمن من الوجود حسب منظري النظرية الطورانية.

إن التوصيف القانوني والعلمي الأدق للمأساة الأرمنية أنها جريمة إبادة أجناس بشرية وليست أحداث مؤسفة أو مجازر خارجة عن سيطرة الدولة التركية، كما يدعي بعض المتذاكين اليوم.

نهاية… يصر الأرمن اليوم على إدانة الإبادة الأرمنية ومعاقبة مرتكبيها ليس من منطلق ذاتي فقط، بل من منطلق إنساني شمولي حرصاً على قيم الحق والعدالة، وعلى كرامة الإنسانية لأن بقاء المجرم طليقاً من دون عقاب يشجعه والآخرون معه على تكرار الجرائم، فلو أن المجتمع الدولي عاقب مجرمي الإبادة الأرمنية على جرائمهم لما تجرأ مجرمون آخرون من أمثال هتلر في أوروبا الشرقية وبول بوت في كمبوديا وإسحق شامير في فلسطين وغيرهم في رواندا ويوغسلافيا السابقة، وتيمور الشرقية…. على تكرار تلك الجرائم.
الكل مدعوون اليوم للتعريف بالإبادة الأرمنية حتى لا يبقى الجزار بمنأى عن العقاب، هذا ما يدعو إليه الواجب الإنساني.

بقلم: سركيس بورنزسيان
نقلا عن الوطن السورية

scroll to top