3298.jpg

مئة سنة على الإبادة الأرمنية: أردوغان لم يحسم المسؤولية التركية

استهلّ جيفري روبرتسون خطابَه راوياً قصة عمّه الراحل وليام روبرتسون، وهو جندي في الجيش البريطاني أُرسل لمحاربة الجيوش العثمانية. وبعد أقلّ من 24 ساعةً على وصوله إلى غاليبولي، أُصيب برصاصة قناص أو رشّاش أودت بحياته. روى روبرتسون هذه القصة ليميّز بين مقتل جندي في الحرب وإبادة الأرمن في السلطنة العثمانية بعد الأوامر التي أصدرتها دولتهم بنفسها. ويعتقد روبرتسون، على رغم أنّ وفاة عمّه فضلاً عن الملايين من الجنود الآخرين الذين قتلوا في «الحرب العظمى» شكّلت حدثاً مأساوياً ومؤلماً، أنّه ما من حاجة إلى الاحتفال بهذه الذكرى بما أنّهم «قتلوا في شكل قانوني». وأضاف قائلاً إنّ عمليات الترحيل القسرية والمذابح التي ارتُكبت بحقّ مئات الآلاف من الأرمن وغيرهم من المدنيين – أي العجزة والنساء والأطفال الذين أجبروا على خوض مسيرات حتّى الموت إلى الصحراء السورية – تُعتبر جرائم ضد الإنسانية لم يُعاقب مرتكبوها قطّ. وأصرّ روبرتسون على ضرورة تذكُّر هذا الحدث.

ينطوي اختيار روبرتسون إلقاء كلمة الافتتاح في «مؤتمر المسؤولية 2015» في نيويورك المخصّص للاحتفال بالذكرى المئة للإبادة الجماعية للأرمن التي ينظمها «الاتحاد الثوري الأرمني» (أو الطاشناق) على أهمية رمزية. والجدير ذكره أنّ تاريخه المهني حافل بالدفاع عن القضايا البالغة الدقة في مجال حقوق الإنسان، علماً أنّه بصفته قاضياً، ترأس في العام 2006 محكمة الأمم المتحدة الخاصة بسيراليون التي دانت الرئيس السابق تشارلز تايلور بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وفي الآونة الأخيرة، قام روبرتسون بتمثيل أرمينيا ضدّ تركيا في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في بروكسيل، فضلاً عن تأليفه كتاباً حول الإبادة الجماعية للأرمن. ولذلك، ركّز في المؤتمر على الربط بين أحداث إبادة الأقليات في عهد السلطنة العثمانية قبل مئة عام والمخاوف التي تظهر حاليّاً في شأن الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية.

لا شكّ في أنّنا سمعنا جميعاً بقضية القتل الجماعي للأرمن، لكننا بالكاد نعرف أية تفاصيل عنها، لذا لا بدّ من طرح السؤالين التاليين: ماذا حدث في عام 1915؟ وأين تكمن أهميّته بالنسبة إلينا في الوقت الراهن؟

تقع أهمية الإبادة الجماعية الأرمنية في كونها أوّل «إبادة جماعية حديثة». ففي عصور ما قبل الحداثة، ارتكبت الجيوش مجازرَ بحقّ السكان المحليين ودمّرت أي ملامح لحضاراتهم – سواءً أكانت الجيوش الرومانية التي دمّرت قرطاج أو المغول الذين اجتاحوا بغداد ودمروها. أمّا ما يجعل من القضية الأرمنية النموذج الأولي عن الإبادة الجماعية الحديثة، فهو أنّ الحكومة التركية نفسها انقلبت على جزء من السكان، معلنةً بأنهم «غير مرغوب فيهم»، وقرّرت أن تبيدهم وتمحو أي آثار ثقافية يخلّفونها. وفي ظل الحرب العالمية الأولى – التي انضم إليها العثمانيون بإرادتهم وحاربوا في صفوف الإمبراطورية الألمانية – أعلنت الحكومة أنّ الأرمن جميعهم خونة ومتمردون. وفي البداية، تمّ اعتقال المفكّرين وإعدامهم، ومن ثمّ تمّ نزع السلاح من الرجال الذين يخدمون في الجيش وإعدامهم، ليتمّ بعدها ترحيل المدنيين المتبقين إلى معسكرات الاعتقال في دير الزور حيث ذُبحوا في شكل جماعي.

يظهر ازدياد في الكتب العلمية التي تبين العلاقة بين الإبادة الجماعية للأرمن والجرائم النازية التي ارتُكبت بحقّ اليهود في المحرقة وكيف استفاد القوميون الألمان من «النجاحات» التي حقّقها الشباب الأتراك في التخلص من الأقليات، كمثال لهم لتأسيس وطن ألماني «متجانس» من طريق ذبح اليهود والسلاف وغيرهم من السكان. وإضافة إلى ذلك، قام النظام الستاليني بترحيل جزء كبير من السكان وذبحهم، على أساس الطبقة التي ينتمون إليها أو عرقهم، ومن ثمّ تأتي جرائم كمبوديا ورواندا ما يميّز الإبادة الجماعية للأرمن عن محرقة اليهود أو الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا مثلاً، هو أنّه في ما يتعلّق بقضية الأرمن، لم يعترف الجناة بالجريمة التي ارتكبوها. فعلى مدى قرن، حاولت تركيا أن تمحو ذاكرة الأرمن وآثارهم فمن أصل 2.2 مليون أرمني لم يبقَ سوى 60 ألف أرمني في تركيا في الوقت الحالي. وعندما استمرّ الأرمن في النضال، بادرت تركيا إلى القول إنّ عمليات ترحيل السكان (التي تزعم بأنّها لم تكن سوى عمليات «نقل» إلى مكان جديد) نُفّذت تلبية لاحتياجات عسكرية وإنّه يجب تحميل الأرمن مسؤولية تمرّدهم وتعاونهم مع العدو.

ولا بدّ من أن تكون حقوق الإنسان محطّ اهتمامنا جميعاً. فإذا تساهلنا مع حدوث انتهاكات في مكان معيّن، سيكون ذلك بمثابة تبرير لوقوعها في أماكن أخرى أو لاستخدام القوة الناجمة عن الإحباط بسبب غياب العدالة. وماذا عن إغفالنا القتل الجماعي على نطاق الإبادة الجماعية – وهي جريمة تُرتكب ضدّ عرق بكامله؟

هايغ أوشاجان، أحد منظمي المؤتمر، قال: «في السنوات القليلة الماضية، صبّ «الاتحاد الثوري الأرمني» اهتمامه على الحصول على تعويضات عن الجرائم التي ارتُكبت بحقّ الأرمن وليس الاعتراف بها فحسب، كما كانت الحال من قبل. فقد سبق أن تمّ الاعتراف بها وتحقيق النجاح في هذا المجال». ولكن عن أي نوع من التعويضات نتحدّث؟ تشتمل الخطوة الأولى للحصول على تعويضات على عمل قانوني يقضي بمطالبة الحكومة التركية بإعادة ممتلكات الكنيسة التي تمّت مصادرتها في عام 1915 والتي دُمِّرت بمعظمها. وأضاف أوشاجان قائلاً: «يمكن أن تكون هذه الخطوة الأولى».

واللافت أنّه يتمّ الاحتفال بالذكرى المئة على الإبادة الجماعية في جو عاطفي مختلط، فمن جهة، يسود جوّ من النجاح يعطي انطباعاً بأنّه حتى بعد مئة سنة، لا يزال النضال من أجل العدالة مستمرّاً. أمّا الأمر الذي كان مشجّعاً في المؤتمر، فهو مشاركة عدد من العلماء الأتراك والأكراد، علماً أنّه لا يمكن فرض حكم القانون والديموقراطية الحقيقية من دون تناول الذنب الأساسي الذي بُنيت عليه الجمهورية التركية. بيد أنّه تظهر في الوقت عينه مخاوف إزاء ما يجري في الشرق الأوسط، حيث وضعت كلّ من الحكومات والجماعات المسلحة السكان المدنيين هدفاً لسياساتها المدمرة.

وفي إحدى جلسات المؤتمر التي تمّ الاطلاع خلالها على الأعمال الفنية المستوحاة من الإبادة الجماعية – سواء أكانت صوراً أو روايات أو مسرحيات – ذكّر أحد المؤلفين الجمهورَ بأنّه لا ينبغي الاستسلام وبأنه لا بدّ من استمرار النضال من أجل الذاكرة والعدالة. وتابع قائلاً: «لا تنسوا أبداً أننا الغالبية وهم الأقلية الصغيرة»، في إشارة إلى المدنيين الأبرياء الذين وقعوا ضحية مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية.

وفي 23 نيسان (أبريل) 2014، قدّم الرئيس التركي أردوغان تعازيه للأرمن في خطاب موجّه إليهم. وعلى رغم أن الخطاب كان محيراً – بما أنّه وضع معاناة الضحايا والجناة في المستوى نفسه – إلا أنّها كانت المرة الأولى خلال 99 عاماً التي يتوصّل فيها قائد تركي إلى استنتاج مفاده أن الأرمن خاضوا معاناة كبيرة. وقد ساد حينها أمل بأن يتّخذ هذا القائد التركي الخطوات الإضافية اللازمة لتناول قضية الظلم هذه. إلا أنّه في الوقت الراهن، يبدو أنّ القادة الأتراك لا يبالون بالعدالة بل بالعلاقات العامة.

وأنهى روبرتسون قائلاً: «وضعت تركيا خطّة تحوّل كبيرة»، مشيراً إلى تخطيط الحكومة التركية لتنظيم احتفال كبير بالانتصارات العثمانية على القوات المتحالفة في غاليبولي في عام 1915. وتجدر الإشارة إلى أنّ العادة جرت بأن تحتفل تركيا بذكرى هذه المعركة في 18 آذار (مارس)، ولكنّها قرّرت هذا العام تنظيم حدث كبير في 24 نيسان (أبريل) عند احتفال العالم بذكرى الإبادة الجماعية للأرمن. ويذكّرنا المؤرخون بأنّ الإنكار هو المرحلة الأخيرة من الإبادة الجماعية، علماً بأنّنا ما زلنا نلمس الإنكار والجريمة حتى يومنا هذا.

بقلم: فيكين شيتيريان | صحيفة الحياة

scroll to top