بالفيديو: كلمة العماد ميشال عون من اللويزة في مئوية الإبادة الأرمنية

ما أشبه اليوم بالأمس، فالتاريخ يكرّر اليوم نفسه، ويُذبح المسيحيون وغير المسيحيين، ويهجّرون من أرضهم وبيوتهم، تنفيذاً لفكرٍ إلغائي يرى في الآخر عدواً توجب إزالته والقضاء عليه، تماماً كما حدث منذ حوالي مئة عام عندما كان الفكر العثماني يرى في من يخالفه المعتقد الديني عدواً تجب إبادته.

فالمجتمع الأحادي، وإلغاء التعدّدية ليسا بالمشروع الجديد كما قد يعتقد البعض، إذ قد راود هذا الحلم السلطان سليم الأول، مؤسس الدولة العثمانية، فقرر تخيير المسيحيين واليهود بين اعتناق الدين الإسلامي أو الرحيل عن الدولة. إلّا أنّ شيخ الإسلام آنذاك في السلطنة “ذينيلي علي أفندي” رفض هذه الفكرة قائلاً للسلطان بأنّ “المسيحيين واليهود قد عَصَموا منك دماءهم وأموالهم”، فتراجع عن قراره، وطوي هذا المشروع لفترة من الزمن.

ولكن، مع بداية تفكك السلطنة العثمانية ظهرت حركات استقلالية وانفصالية في أرجائها، وبدأ الحكم العثماني يقمعها بارتكاب المجازر بحق الأرمن وغيرهم من المسيحيين، خصوصاً على عهد السلطان عبد الحميد الثاني ما بين 1894 و 1896، وقد عُرفت هذه المجازر بالمجازر الحميدية حيث سقط فيها أكثر من ثلاثمئة ألف شهيد. ويُنقل عن السلطان عبد الحميد قوله “بدي اقتل كل الأرمن وخلّي واحد حطّو بالمتحف”.

أما الذروة فكانت خلال الحرب الكونية الأولى، خصوصاً بعد الانقلاب الذي قام به أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا في العام 1913، فتولّوا الحكم الفعلي في السلطنة وصار السلطان محمد الخامس دمية في أيديهم، وأحيوا فكرة السلطان سليم الأول بتوحيد كل الأقوام والأعراق الخاضعة للسلطان العثماني، بغية خلق وطن عظيم وأبدي بلغةٍ وديانةٍ واحدة تسمّى توران Turan أو الدولة الطورانية التركية.

كان فكر أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا فاشياً إجرامياً، استباح القتل والدمار حتى غدت كلمة تتريك مرادفة للإبادة. ويروي “حسن جمال” وهو حفيد جمال باشا ، أن طلعت باشا قال لجدّه جمال: “لو انفقنا كل القروض التي أخذناها، لستر شرورك وآثامك لما كفتنا”. كما يروي والي ديار بكر محمد رشيد باشا بأنّه استلم برقية من وزير الحرب (أنور باشا) تحتوي على ثلاث كلمات فقط: “أحرق – دمّر- أقتل”. (وما أشبه اليوم بالأمس)

التنفيذ العملي لهذا المشروع بدأ بشكل تدريجي وممنهج؛ فمع دخول السلطنة الحرب وإعلان الجهاد “على أعداء الإسلام”، بدأ التجنيد الإلزامي لكل رعاياها. وبلغ عديد الأرمن في الجيش العثماني حوالي اربعين ألفاً. في خريف 1914 صودرت جميع اسلحتهم واقتيدوا الى السخرة، فمات قسم كبير منهم أو قتل على يد الأتراك، ما حدا بالمجلس الوطني للأرمن أن يبلّغ العثمانيين رفضه الانضمام مجدداً الى الجيش، فاتخذ الاتراك من هذا الرفض حجةً للقضاء عليهم. وقامت الحكومة العثمانية بناءً على اقتراح أحد منظّريها، الدكتور بهاء الدين شاكر، بالإفراج عن المجرمين في السجون التركية، وتنظيمهم ضمن تشكيلات وظيفتها ملاحقة الأرمن والقضاء عليهم. (أيضاً ما أشبه اليوم بالأمس) فنفّذت تلك العصابات عملها على أكمل وجه، ولاحقت الأرمن عبر الجبال والبراري وتفنّنت في التنكيل بهم وقتلهم، بالإضافة الى سرقة مقتنياتهم.

كل هذه المجازر حصلت تحت سمع العالم وبصره، ممثلاً بالقناصل والسفراء الذين اقتصر دورهم على تدوين الأحداث وإرسال التقارير عن أساليب القتل وعدد الضحايا، أما دول الغرب فقد اقتصر دورها على فتح أبواب الهجرة الى أراضيها. (أيضاً وأيضاً ما أشبه اليوم بالأمس)

لقد وضع الأتراك خطة تهجير المسيحيين وابادتهم وراحوا يفتشون لها عن الأسباب والمبررات، فتحدّثوا عن التوسع المسيحي في الأناضول، وعن حركات تحرّر وانفصال عن السلطنة، وألصقوا أيضاً بالأرمن تهمة التعاون مع الروس والفرنسيين. ولكن، الطريقة المعتمدة والمنهجية المنظمة في تنفيذ عمليات القتل تشير الى أن الهدف كان القضاء على الشعب الأرمني بكامله، بخاصةٍ وأن حملة الإبادة هذه لم تقتصر على الأرمن الذين سقط منهم قرابة المليون والنصف مليون شهيد، ولكنّها طالت أيضاً اليونانيين بالإضافة الى السريان والأشوريين والكلدان وعرفت باسم مجازر “سيفو” لأن معظم الضحايا والذين يقارب عددهم النصف مليون، قتلوا بالسيف، هذا بالإضافة الى حرب الإبادة الصامتة بالمجاعة التي طالت مسيحيي جبل لبنان وحصدت منهم قرابة مائتي ألف شهيد، أي حوالي 40% من سكان الجبل.

صحيح أن اليوم يشبه الأمس، ولكنه يختلف عنه في ناحية ملفتة، فقافلة الشهداء قد ازدادت وتنوّعت ولم تعد مقتصرة على المسيحيين، بل شملت أيضاً المسلمين بكل مذاهبهم، كما سائر طوائف المشرق، أما المجرم فيحمل نفس الذهنية الإلغائية لجميع من خالفه المعتقد والرأي. ولا شك أن عدم الاعتراف بمجازر الماضي شجّع على ارتكاب مجازر الحاضر، ومن يعلم كيف ستنتهي هذه المآسي المتنقلة من بلد لآخر.

ولكن، كما أن التضييق المعيشي والظلم والإجرام التي عانى منها المسيحيون في السلطنة العثمانية لم تمنعهم من التمسك بإيمانهم وهويتهم ولغاتهم وثقافاتهم المتنوعة، ولم تقتل فيهم نزعة السعي الى العيش بحرية والتفاعل مع محيطهم والتناغم معه، إيماناً بقول السيد المسيح ” تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة” ، فإن الإجرام الذي يُمارس اليوم، والعنف، والمجازر التي تُرتكب بحقّ شعوب المشرق بكافة تلاوينيها ومعتقداتها قد وحّدت جميع الطوائف، الاسلامية والمسيحية، بمواجهة التكفير الذي ينقض جميع الأديان ويعمل لمحو ذاكرة الشعوب. وإيماننا، أنه مهما فعل فلن يتمكّن، من إيقاف مسيرة الحضارة وإعادتها الى عصور البربرية.

إنها مأساة مئة سنة، رغمها، وبسببها، قرّرنا أن نكونَ غداً، وأن يكون غدُنا مختلفاً عن اليوم وعن الأمس، فنحن أبناء الإيمان والرجاء، نحن أبناء الفداء والقيامة، وأبواب الجحيم لن تقوى علينا.

scroll to top