21269.jpg

فلسفة القتال الدائم وصناعة العدو.. روسيا نموذجاً

فلسفة القتال الدائم وصناعة العدو.. روسيا نموذجاً

ما زال الروس يعيشون الحلم السوفيتي السابق لبناء إمبراطورياتيهم التي لا تقهر، متغافلين عن كل تاريخهم المشترك اقتصاديا وعسكريا، من خلال ملاحقة قاسم جديد بينهم لم يكن البتة موجودا في عصر السوفييت وهو “الدين”، فحلمهم الجديد أصبح الإمبراطورية الأرثوذكسية العظمى، من هنا، ومرة أخرى يتجاهل الروس جميع قواعد ونتاج المعرفة البشرية للمجتمعات السياسية، ويتبعون سياسة صناعة الأهداف الوهمية لملاحقتها.

لا يمكن الفصل بين فلسفة الشعوب وفلسفة حكوماتها فكل منهما يستمد سياساته من الآخر، فلسفة القتال الدائم وصناعة العدو. لقد كانت الحربان العالميتان اللتان خاضتهما روسيا حجر الأساس لصناعة ذلك المفهوم العالمي بصورته الحديثة. فلم تعد الحكومة الروسية خليفة أمجاد السوفييت قادرة على الاستمرار دون قتال دائم، وسبب غوصها في تلك المعركة الوهمية هُو ميراثها الفكري من الحروب السوفيتية دون علمها بذلك.

أما في العصر الحديث لم تعد المعارك تجري كما كانت في السابق، فلم تعد الجيوش آلات للقمع والسيطرة والقوة، بل دخل مفهوم جديد يعرف بالسيطرة الفكرية على الشعوب، وللدقة على الجماعات، وهو مفهوم إنساني جديد، جاء نتاج خبرات بشرية بعد حروب عالمية طويلة الأمد، وبعيدا عن أنه مفهوم غربي، فهذه الكلمة بحد ذاتها، تشكل عقدة لكل ما ينطوي تحت مسمى الشرق، فهذا حاجز فكري نصنعه بأيدينا تحت مسمة عدو لكنه وهمي.

من هنا، تبقى السياسات الروسية متصلبة مثل سابقتها التي نجحت في حقبة إنسانية غير بعيدة، ويبقى مفهوم السيطرة الفكرية لدى الروس لا يتجاوز حدود بروباغاندا مطورة عن سابقتها السوفيتية، فخسارة دول الاتحاد السوفيتي السابق دولة تلو الأخرى وتحويلها لعدو لم يكن عملية أمريكية بامتياز بل كانت عملية روسية، ومن وضع حجر الأساس لذلك المشروع منذ أن بدأت تغالي بالتمسك بأرض شعوبها بقوتها العسكرية دون أدنى قوة فكرية مسيطرة على تلك الشعوب، بل وتعمل على صناعة شعوب معادية لها بلا هدف أو مبرر سوى حب القتال.

من هنا، إن روسيا هي تجربة فريدة ومميزة لدولة تدمر نفسها بنفسها إن لم تجد لها عدو، ذلك ما قاله الروس عن أمريكا مسقطين صورتهم على عدوهم الوهمي، وصولا لسياساتهم الخارجية كسحق أرمينيا اقتصاديا أوكرانيا وبيلاروسيا، من خلال تحويل شعوبها لسلاح فتاك ضد روسيا . وبالتالي، ما يظنه الروس أن تلك الدول أصبحت عدو خارجي، من خلال التركيز على قواعد حلف شمال الأطلسي – الناتو العسكرية فيها، ما لا يريد الروس فهمه انها ليست سوى جزء من الفلسفة الروسية الأزلية دمر نفسك بنفسك.

صناعة الاتحاد السوفيتي الجديد

ما زال الروس يعيشون الحلم السوفيتي السابق لبناء إمبراطورياتيهم التي لا تقهر، متغافلين عن كل تاريخهم المشترك اقتصاديا وعسكريا، من خلال ملاحقة قاسم جديد بينهم لم يكن البتة موجودا في عصر السوفييت وهو “الدين”، فحلمهم الجديد أصبح الإمبراطورية الأرثوذكسية العظمى، من هنا، ومرة أخرى يتجاهل الروس جميع قواعد ونتاج المعرفة البشرية للمجتمعات السياسية، ويتبعون سياسة صناعة الأهداف الوهمية لملاحقتها، فصحيح أن أقوى الأمم على مر التاريخ استمدت قوتها من الدين، لكن قواعد تلك اللعبة في عصرنا الحالي لا تنطبق سوى على الدول الصغيرة نسبيا التي يكون شعبها أكثرية دينية داخليا وأقلية إقليميا، كإسرائيل وأذربيجان ولبنان ما قبل المد الشيعي، ومستقبلا كردستان.

لكن ما لا يفهمه الروس أن الأمر ليس مرتبط بالدِّين بتاتا بل بالأقلية، فأي أقلية منظمة ستشكل قوة تفوق جميع الحدود، فمشكلة الروس أنهم لا يعرفون اللعب، وإذا لم يعرفوا قواعد اللعبة كسروا اللعبة، فبدلا من تحويل أكبر دولة بالعالم لأقلية منظمة، يستطيع الروس صناعة أقليات منظمة تحت حمايتهم ليستفيدوا من ذلك السلاح، لكنهم مصرون على كسر اللعبة لفهمهم الخاطئ بها. صناعة الأحلام الوهمية، وصناعة الأعداء الوهمية.

ملخص الفلسفة الروسية

الصين القوة المنسية لدى الروس، في خضم الحرب الباردة لم يجد الروس عدو يحاربوه فدخلوا في حربهم الحدودية على الصين، وذلك دليل على سياساتهم طويلة الأمد. وبالعودة إلى دول الاتحاد السوفيتي السابق، نجد دول مثل كازخستان وأوزبكستان طاجيكستان قرغيزستان مثال للعبودية المفرطة لدى الروس، فما يظنه الروس أن تلك الدول لن تهرب أبدا من قبضة الدب الروسي إلى الغرب وهو صحيح، لكن ما لا يفهمون ولا يدركونه أن تلك الدول بدأت بالفعل بالاتجاه نحو الصين، وبالقريب ستغزو الشركات الصينية دول الاتحاد السوفيتي المسلمة دولة تلوى الأخرى، وذلك بعد أن وضعت حجر الأساس بها المتمثل بالشركات النفطية، تاركة الدول المسيحية للدب الروسي الغارق بالحلم المسيحي.

وما لا يفهمه الروس أن صبر الصين سينفذ منهم، لأن أي قواعد أمريكية في تلك الدول ستمثل تهديد مباشر للصين لأنها حدودية لها، فمتى سيفهم الروس أنهم حليف عسكري للصين، لا أكثر، ولم ولَن يكن حليف اقتصادي لها بأي حقبة، وأن الصين بطبيعية المنطق لا تريد جار منافس اقتصادي لها. متى سيفهم الروس أن الحرب العالمية لن تندلع مجددا، وإذا اندلعت لن تكون سوى حرب أهلية روسية، تتفاداها روسيا دوما بالتخلي عن أراضيها، و سيأتي اليوم الذي لن يبقى فيه أرض للتخلي عنها.

ماكس كيفورك، صحفي و محلل سياسي.
خاص لوكالة “رياليست” الروسية.

scroll to top