19023.jpg

الآثار الأرمنية في تركيا: عقود من التدمير والإهمال

الآثار الأرمنية في تركيا: عقود من التدمير والإهمال

أخيرًا وبعد منع لأسباب أمنية، تم الاحتفال بعيد الظهور الإلهي بكنيسة “الصليب المقدس” الأرمنية الواقعة بجزيرة “أكدمار” – بحسب النطق التركي، أختمار بحسب نطق السكان الأصليين – بولاية “وان” شرقي تركيا؛ وذلك في 9 سبتمبر الماضي. هذا الحدث الذي أعطته الصحافة التركية أهمية كبيرة، يراه البعض وكأنه “تطور سطحي”. الاحتفال شارك فيه وزير الثقافة والسياحة التركي، وحاكم ولاية “وان”، إلى جانب عدد من رجال الدين الأرمن، ومجموعة من الأشخاص مكونة من 150 فرد قدموا من مدينة إسطنبول.

وفي كلمة له خلال الحفل، أعرب النائب العام لبطريرك الأرمن في تركيا،آرام أتاشيان، عن شكره للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وللمسؤولين المعنيين. كما أن بعض المسؤولين في كلمات لهم قالوا “كما كان الأمر من قبل نحن كشعب تركي مستمرون في احترام ثقافات الحياة الدينية للأرمن، وندعمها بشكل كبير”. هذا الشكر وتلك الكلمات كلها تفاصيل بعيدة كل البعد عن نقل الصورة الكارثية للوضع بشكل كامل.

تم بناء الكنيسة كجزء من قصر ومجمع ديني بين عامي 915 و921 ميلادية من قِبل المهندس المعماري القس مانويل، تحت إشراف الملك الأرمني جاجيك الأول أرتسروني، وأضيفت الكنيسة إلى قائمة منظمة اليونسكو للتراث العالمي عام 2015.

ويعتقد أنه تم تشييد الكنيسة للاحتفاظ بجزء من “الصليب الحقيقي”، الذي استخدم في صلب يسوع المسيح. الكنيسة دمرت خلال وبعد الإبادة الأرمنية التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن عام 1915. حركة تدمير وتخريب الكنيسة استمرت في فترة الجمهورية أيضًا وذلك من خلال حفريات تمت من أجل العثور على الذهب والأشياء القيمة التي يعتقد أن الأرمن دفنوها هناك.

ونتيجة لحملات الدعاية المضادة، فقدت الكنيسة كل نسيجها الداخلي والخارجي، وتم تخريبها وباتت مهجورة. واعتبارًا من سبعينيات القرن الماضي، بدأت الجالية الأرمنية القليلة للغاية في البلاد، تتوافد على زيارتها، لكن بعد فترة الثمانينيات بدأت السلطات التركية تدقق وتراقب عمليات دخولهم وخروجهم من الجزيرة التي توجد بها الكنيسة. لكن فيما بعد تم حظر دخولهم بالكلية إلى المكان.

تم نسيان الكنيسة وإهمالها بالكامل وهي تحفة معمارية لا مثيل لها تعانق جمال بحيرة “وان” الخارق. لكن في العام 2005 بدأ ترميمها بتعليمات من الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد طلب من البطريرك، مسروب موتافيان. وبعد الترميمات التي انتهت في العام 2006 بدأت مرحلة غير سارة في العلاقات بين الجانبين. لكن بغض النظر عن ذلك فإن عملية الترميم هذه تعتبر خطوة هامة بل تاريخية اتخذتها حكومة العدالة والتنمية، مقارنة بحالة الإهمال التي شهدتها الكنيسة خلال فترة الجمهورية.

فللمرة الأولى لم يتم تدمير وهدم بناء خاص بالأرمن، بل ويتم تجديده وبتعليمات من رئيس الدولة. وفي تلك السنوات كانت حكومة العدالة والتنمية حازمة في مسألة إعادة مؤسسات وأوقاف الأرمن المغتصبة من قبل الدولة. وبالفعل أُعيد جزء من هذه الممتلكات للأرمن.

وفي 29 مارس من العام 2007 ومن خلال احتفالية، أُعيد افتتاح الكنيسة المذكورة كـ”متحف تذكاري”، أي لم تعد كنيسة كما كانت في السابق، بل أصبحت متحفًا محظورة العبادة فيه، كما لم يوضع فيها صليب.

الحكومة التركية رغبت بإصرار في أن يكون افتتاح الكنيسة في 24 أبريل الذي يصادف الذكرى السنوية لإبادة الأرمن التي تمت من قبل الدولة العثمانية. لكن تراجعت السلطات التركية عن تنفيذ هذه الرغبة بعد أن قال الباطريرك، مسروب موتافيان “لو حدث ذلك لن أتي، ولن يأتي أي أرمني”.
وحضر مراسم الافتتاح، وزير الثقافة والسياحة التركي آنذاك، آتيلا كوج، الذي استغل المناسبة، وبدأ يتحدث في كلمته التي ألقاها عن “السماحة التي لا مثيل لها التي تتمتع بها الحكومة التركية”. لكن من المؤسف أن المراسم لم تشهد أية ترجمة للغة الأرمنية من أجل الضيوف القادمين من أرمنيا، وذلك بناء على تحذيرات من رئيس بلدية “غَفاش” التي تتبعها إداريًا الكنيسة بولاية “وان”.

رئيس البلدية آنذاك قال إن “هذه الجزيرة لن تنطق عليها كلمة أرمنية واحدة”، وذلك بموجب التعليمات التي أصدرها لمنع الترجمة الأرمنية لكلمات الضيوف في حفل الافتتاح.

ولما نطق وزير الثقافة والسياحة في كلمته، اسم الجزيرة بحسب النطق التركي “أكدمار”، وليس بحسب نطق سكانها “أختمار”، تم تنبيهه من قبل الحضور الأرمن، فرد عليهم قائلا “هل أنا كوزير لا يمكنني أن أغير اسم مكان ما ؟”.

الملفت للانتباه في مراسم الاحتفال أن مبنى الكنيسة غطيت جميع جنباته بالأعلام التركية، وبصور كبيرة لمصطفى كمال أتاتورك، وكأن الحدث ليس مراسم افتتاح كنيسة، وإنما “احتفال بتحرير المدينة من سطوة الأعداء”.
الكاتب الأرمني الذي تم اغتياله في العام 2007، هرانت دينك، كان قد قال “دعونا لا نترك ترميم جزيرة أختمار على أنه مجرد ترميم بناء فحسب، علينا أن نستغل الفرصة لنقوم بترميم أرواحنا أيضًا”.

لكن لم يحدث ما قاله هرانت دينك. ففي العام 2009 تم توقيع البروتوكولات التركية – الأرمنية “بشأن إقامة العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية أرمنيا وجمهورية تركيا” و”تطوير العلاقات بين البلدين” وذلك دون شروط مسبة من الطرفين. وفي العام 2010، وبناء على طلب البطريركية الأرمنية، وجهود كبيرة، تم الإعلان عن إعادة افتتاح الكنيسة في ذات العام للاحتفال بعيد الغطاس، وأنه سيتم وضع الصليب لتستعيد الكنيسة شكلها الأصلي.

غير أنه قبل اليوم الذي خصص للاحتفال بعيد الغطاس، خرج حاكم ولاية “وان” في تصريح مثير، وقال إنه “لا يمكن إعادة رفع الصليب مكانه لأسباب فنية صعبة”. وبالتالي أجريت مراسم الاحتفال دون صليب. ومن ثم فشل الحفل فشلا ذريعًا.

في الأيام ذاتها، وخلال مؤتمر صحفي مع نظيره الأذري، حيدر علييف، قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن “السماح بإقامة الاحتفال دليل على السماحة التي يتمتع بها الأتراك. ونأمل أن تجد مثل هذه التصرفات مقابلًا لها لدى أرمنيا. فعليهم أن يظهروا نفس الدرجة من السماحة”.

أردوغان بمثل هذه التصريحات أظهر بشكل واضح أنه لم يدرك أهمية الحفاظ على ميراث تاريخي باقٍ من المملكة الأرمنية على أرض تابعة لتركيا، ويقع داخل حدودها الجغرافية. كما أنه دلل على أنه لم يستوعب بما فيه الكفاية المكاسب الكبيرة التي من الممكن أن تجنيها المنطقة من مثل هذه المشاريع السياحية. وكل ما فعله هو أنه وضع ما تم إنجازه في هذا الخصوص داخل خانة أن أرمنيا والأرمن مدينون برد المقابل على المواقف التركية.

أي أن تركيا لم تعرف كيف يمكنها تخطي سياسة “المعاملة بالمثل”، لذلك لم تستطع السلطات فيها التوقف عن طرح السؤال الدائم ألا وهو “كيف لنا أن نبيع هذا لأوروبا وأمريكا”. ولا سيما أن تلك الآونة شهدت قطع مرحلة البرتوكولات بين تركيا وأرمنيا على خلفية أزمة إقليم “قاره باغ” بين الأخيرة وأذربيجان.

وعلى إثر ردود الأفعال، سمحت السلطات التركية بتعليق الصليب، لكن بعدها، وفي عام من الأعوام تم منع إقامة طقوس الصليب لدواعٍ أمنية. بل وقامت السلطات التركية بإنشاء وحدة شرطة مهمتها تتمثل في مراقبة المجموعات التي جاءت إلى الجزيرة من أجل الدعاء. إذ كانت تحذر كل من يدخل ويخرج من تلاوة الدعاء. أي أن الحكومة التي تعتبر نفسها حكومة متدينة، تعتقد أنه بإمكانها التحكم في الأدعية والمعتقدات من خلال مضايقات الشرطة، وهذا بحق أمر مأساوي.

وهناك شيء آخر في هذا الصدد يمكننا الحديث عنه، وهو أنه وفقًا لاتفاقية “لوزان” فإن “الجمهورية التركية تضمن وضع كافة الكنائس، والمقابر، والأبنية الدينية الأخرى الموجودة على أراضيها، تحت حمايتها وسيطرتها”.

وبحسب معطيات عامي 1913-1914 فإن الدولة العثمانية كان بها 2.538 كنيسة، و451 معبدًا، و2000 مدرسة خاصة بالأرمن. جزء كبير من هذه المنشآت تم تدميرها، ونهبها. أما الجزء الآخر منها فتم إعلانها “مناطق عسكرية محظورة” وهذه الأماكن ليس من الواضح مدى تعرضها للتدمير والخراب. ولم يتبقَ الآن سوى 50 كنيسة، و16 مدرسة للأرمن الذين يبلغ عددهم ما بين 55 إلى 60 ألف شخص. جدران هذه المدارس، والمساجد باتت مسرحًا للكتابات العنصرية والعدوانية التي يكتبها الأتراك ضد الأرمن.

المشكلات التي تمر بها تركيا كبيرة جدًا، وانتظار قيام القائمين عليها باتخاذ خطوات جديدة لتلافي ما نمر به من أزمات غير معقولة، بمثابة تضييع للوقت دون أي فائدة.

بقلم: آلين أوزينيان، نقلا عن صحيفة آحوال التركية

scroll to top