15600.jpg

والأرمن أيضأ.. بيننا - بقلم: د. زيد حمزة

والأرمن أيضأ.. بيننا – بقلم: د. زيد حمزة

لم أعرف المواطنين الارمن في طفولتي المبكرة التي قضيتها بين السلط واربد والكرك ومادبا بل بعد ذلك في عمان، ولم يكن معي منهم رفاق في المدرسة العسبلية أو العبدلية إذ كانت لهم مدرستهم التابعة لكنيسة الارمن في جبل الأشرفية النائي جداً آنذاك، لكني كنت أقرأ في الشوارع لافتات باسماء أرمنية كبدروس (المصور الخاص لسمو الأمير عبدالله) أو يعقوب بريريان، وكرنيك للساعات والخياط هايك بلتكيان وعيادة الدكتور سوران اتيميزيان والصيدلي هوفيك وبوغوص أمهر صانع احذية حديثة، وعرفت آنذاك أن عندهم فريق الهومنتمان الرياضي وفرقة للرقص الشعبي تحيي مناسباتهم واعيادهم القومية التي استشهدتُ بها في تقريري لليونيسيف يوم مثلت الاردن في اللجنة الدولية للتنوع الثقافي عام 2009 ، وفيما بعد زاملتُ كطبيب بعضاً من أكفأ الممرضات وكنَّ ارمنيات كما كان الدكتور شيرارجيان مدير مستشفى لوزميلا واحداً من أفضل الاطباء الذين عملت معهم وتعلمت منهم.

في سبعينات القرن الماضي لفتت نظري ذات مرة رسالة لرئيس تحرير (الرأي) أعجبتني لغتها العربية السليمة خصوصاً حينما وجدتها مذيلة باسم مدبجّها الأرمني (المهندس روبين تامينيان) الذي أصبح بعد ذلك من أعز أصدقائي وقد كان في الاصل من سكان اربد وقد سعدت يومها بالتعرف على اخته المثقفة ويتصادف الآن أنها هي الدكتورة لوسين تامينيان الباحثة التي شاركت في الاسبوع الماضي باشهار كتاب (الارمن في اربد وشمال الاردن) لمؤلفه كيفورك مصرليان في المكتبة الوطنية بعمان، حيث شرح المتحدثون عنه (مأساة تهجير الارمن من وطنهم وكيف اعتمدوا بعد ذلك على ذاتهم فخلقوا من المستحيل عالمهم الخاص في كل البلاد التي لجأوا اليها بعد مجازر تعرضوا لها على يد الجيش التركي في عام 1915 فاحتضنتهم بلاد مثل الاردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وأسهموا هنا في بناء الاردن مع غيرهم من الاطياف المجتمعية كمكون اصيل ضمن الهوية الوطنية الجامعة..) ما حرك عندي رغبةً حملتها في نفسي منذ وقت طويل للكتابة عن الارمن كما عرفتهم في النسيج الاردني الواحد أسوة بما كتبت سابقاً عن (الشوام) وعن (الشركس) فأؤيد الآن ما جاء على لسان الذين استعرضوا الكتاب من اعتدال الارمن في هذا البلد عند التعبير عن مشاعرهم المعلنة على الأقل بشأن قضية تهجيرهم من بلادهم عام 1915 وهي مأساة تاريخية مازالت تسمم العلاقات بين الاتراك والارمن في كل انحاء العالم وتمد اخطبوطها في شتى نواحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذ يطالب الأرمن جراءها بالانتقام من (جزاريهم) الاتراك ويرد هؤلاء بأن الأمر جرى تضخيمه وبولغ به لاسباب سياسية جديدة، فيقوم الارمن باخراج فيلم اميركي ضخم في تسعينات القرن الماضي حشدوا به طاقات فنية كبيرة على رأسها المغني الارمني الفرنسي الشهير شارل ازنافور لكي يثبتوا بشاعة الجرائم التي ارتكبها بحقهم الاتراك لكن الفيلم لم يحقق النجاح المتوقع الا عند عرضه في لبنان حيث الجالية الارمنية الاكثر عدداً والتي تحتل في المجتمع اللبناني والدولة اللبنانية موقعاً مرموقاً ومقدراً ومحترماً..

لا أنوي هنا أن اكرر رأيي في الفرق العلمي البينِّ بين الغفران والنسيان، ولا أن أخوض في مناقشة اكبر جريمة تطهير عرقي في التاريخ المعاصر مازالت ترتكب في حق الشعب الفلسطيني ولا عن القرون الستة الماضية من مأساة استئصال السكان الاصليين فيما سمي بالقارة الاميركية، ولا عما جرى عندما اجتاح التتار دولة الخلافة العباسية في بغداد وخلفوا الدمار والاهوال حتى باتت الاجيال اللاحقة في بلادنا تلعن هولاكو وجنكيزخان وتيمور لنك الذين تنصب لهم في بلادهم التماثيل.. كأبطال ! لكني فقط أطرح سؤالاً نظرياً محدداً احاول فيه بصعوبة ان أكون موضوعياً محايداً: هل إجرام (حكومة ) ما في (زمن) ما بحق شعب آخر ينبغي ان يدفع ثمنه شعب تلك الحكومة بعد زوالها ومجيء حكومات أخرى لا تدين بمنهجها وسياستها ؟!

وبعد.. فانا لا أقصد بالطبع أن يفلت المجرمون من العقاب بل على العكس أن يلاحقوا دون هوادة، وان تدفع (الدولة) المذنبة للذين وقع عليهم الأذى تعويضاً مادياً ومعنوياً وان تفعل كل ما بوسعها لردع من تسّول لهم نفوسهم تكرار الجريمة ، وقبل ذلك كله أن تسجل أمام التاريخ وبخط عريض اعتذارها للشعب المجنيّ عليه..

بقلم: د. زيد حمزة | نقلا عن صحيفة الرأي

scroll to top