15040.jpg

رسالة واحدة لشعبين.. شراكة تاريخية و25 عاماً من العلاقات الدبلوماسية

رسالة واحدة لشعبين.. شراكة تاريخية و25 عاماً من العلاقات الدبلوماسية

تعود العلاقات التاريخية الأرمنية- السورية، إلى عهود سابقة شائقة من حيث طبيعتها وحجمها وعمقها على شتى المستويات، وأدت العوامل الجغرافية إلى توثيق هذه الروابط على كل المستويات بين الأرمن وجيرانهم العرب في سورية خلال العصور الماضية، وكان نهرا الفرات ودجلة يربطان أرمينيا بالمناطق الجنوبية المجاورة، حيث كانت سورية التاريخية تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الصحراء السورية، ومن سلسلة جبال أمانوس إلى حدود مصر، وكانت تقع على الحدود الجنوبية الشرقية لأرمينيا، فضلاً عن أن طرق الشرق القديم، التي كانت تربط سورية بالبحر الأسود، تمر عبر الهضبة الأرمينية.

استوطن الأرمن في مختلف المراحل التاريخية سورية وساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي وبلاد ما بين الرافدين، وتشكلت خلال مئات السنين علاقات بين شعبين عاشا جنباً إلى جنب فوق جغرافيا واحدة، وترسخت وتعززت هذه الروابط وأصبحت مثالاً حياً للصداقة بين أمتين لا تجمعهما هوية واحدة ولا جنس واحد ولا لغة واحدة ولا دين واحد، بل تجمعهما القيم الإنسانية وتاريخ مشترك وقواسم مشتركة ورغبة في وجودهما تحت هذه الشمس وتقرير مصيرهما وحقهما في متابعة الحياة والتعايش السلمي من دون تدخلات وإملاءات خارجية.

اليوم وفي ظل التغييرات الجيوسياسية والوقائع الجديدة التي تمر بها البلدان العربية وخاصة سورية من مآس ومحن وخراب ودمار في العقد الثاني من الألفية الثالثة نتيجة، كما يقال «الربيع العربي»، وانتشار وباء الإرهاب والحركات الراديكالية التكفيرية التي تجري تحت راية الإسلام، والتي ليس لها أصلاً علاقة بالدين الإسلامي الحنيف ولا بالقيم والفكر، ولا بالمبادئ الإسلامية والإنسانية، لا بد من إلقاء نظرة إلى الماضي والاستعانة بالتجربة التاريخية وتوحيد كل القوى والإمكانات للتصدي لهذا الفكر والإرهاب الذي أصاب سورية.

وبناء على ما سبق صدر عن دار «الشرق» للنشر كتاب بعنوان «العلاقات الأرمنية- السورية»، وذلك بمناسبة مرور25 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بقلم الدكتور البروفيسور أرشاك بولاديان، واحتوى الكتاب على عدة فصول وهي: أرمينيا بين الماضي والحاضر، العلاقات الأرمنية- السورية عبر العصور، العلاقات التجارية والثقافية، الإبادة الأرمنية وتشكيل الجالية الأرمنية في سورية، العلاقات الأرمنية- السورية الرسمية بعد استقلال أرمينيا، التعاون الأرمني- السوري الثنائي، العلاقات البرلمانية الأرمنية- السورية، العلاقات الاقتصادية والثقافية، كما ضم الكتاب الحديث الخاص لرئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركسيان إلى جريدة «الوطن» والذي كان قد أجراه الصحفي زياد حيدر في 21 آذار 2010.

تاريخ طويل مشترك

وجاء الإهداء بقلم المؤلف الدكتور أرشاك بولاديان حيث قال: «إلى الصداقة الأرمنية- السورية التقليدية وعربوناً للمحبة والأخوة، وشهادة لأصالة المشاعر المخلصة والمتميزة بين الشعبين الأرمني والسوري وتعبيراً لمعاني الوفاء الذي تجلى بأبهى صورة على مدة التاريخ، وتأكيداً لمتانة العلاقات بين الشعبين وجوهرها الثابت أمام تقلبات الزمن واعتزازاً لدورهما كمشاعل نور حضارية في المنطقة.

هذه العلاقات لها تاريخ طويل مشترك لم تنقطع في يوم من الأيام، بل ازدادت توثقاً على مرّ العصور، ودخلت بعد استقلال جمهورية أرمينيا مرحلة جديدة أكثر نضجاً لتغطي مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية كافة، محتفظة برسالتها الخالدة في خدمة مصالح الشعبين وتلبية لضروراتهما وتعبيراً عن مدى صفاء العلاقات بينهما من شوائب التاريخ».

معمدان بالحب والدم

واستهل الدكتور نبيل طعمة الكتاب بمقدمة أكد فيها أن هذا الإصدار يثري فكرياً كل باحث وقارئ عن تاريخ هذين الشعبين، من خلال ما تعرضا له من استنزافات بشرية واقتصادية من الإبادة الأرمنية عام 1915 على يد الطورانيين العثمانيين، وصولاً إلى ما يجري في سورية منذ عام 2011، وحتى لحظة التدوين وتعرضها للعدوان البشع ذاته على يد الطورانيين العثمانيين الجدد، والذي تعرض له أيضاً أرمن سورية في كسب التاريخية وحلب ودير الزور والأديرة والكنائس ودور المسنين، إلى جانب جميع دور العبادة الإسلامية والمسيحية، وحتى بقايا الدور اليهودية، ما يرينا بشاعة الاستهداف لهاتين الأمتين.
بوركت جهودكم الثرّة بكل ما يفيد، ليس فقط لأمتين، وإنما لكامل الشعوب والأمم، وما تنتجه يعتبر خير دليل على تألق شعب أرمينيا وفكره وأخلاقه، ليس في سورية والشرق الأوسط فقط، وإنما أينما وجد على وجه كوكبنا الحي.

العلاقات التجارية والثقافية

إن موقع أرمينيا الإستراتيجي وأسواقها التجارية جعلاها تحتل مكانة بالغة الأهمية في العلاقات بين الشرق والغرب.
احتفظت أرمينيا بصلات تجارية حميمية مع العالم العربي والإسلامي والشعوب المجاورة، فكانت البضائع المحلية تصدر إلى هذه الدول بوساطة طرق ومحاور التجارة المعروفة، فاكتسبت أرمينيا سمعة عالمية خاصة في إنتاج الملبوسات وأنواع السجاد والوسائد وبضائع أخرى عديدة، وكانت المشغولات الأرمنية الفريدة تصدر إلى أنحاء العالم الإسلامي كافة، وحققت الملبوسات الملونة بصباغ «دود القز» شهرة خاصة، ويذكر الجغرافيون العرب أن هذا الصباغ ينتج حصراً في مدينة ديبل «دوين»، كما لقيت أدوات الاستعمال المنزلي الملونة بصباغ «دود القز» رواجاً كبيراً في أرجاء دولة الخلافة وأصبحت تعرف «بالأصناف الأرمنية».

وقد استرعى اهتمام الجغرافيين العرب الأدوات والحاجات المصنعة في مدينة ديبل، مثل الوسائد والسجاجيد والستائر والأغطية، وخاصة المشغولات الحريرية والقطنية.

التعاون الثنائي

لغرض توطيد وتعزيز العلاقات الثنائية قام رئيس أرمينيا الأسبق ليفون دير بيدروسيان بأولى زياراته الخارجية في 25 نيسان من عام 1992 إلى الجمهورية العربية السورية على رأس وفد رسمي كبير ضم عدة أعضاء في الحكومة والبرلمان الأرمني وشخصيات رسمية أخرى، واستقبل الرئيس الأرمني بحفاوة كل من رئيس الجمهورية العربية السورية الراحل حافظ الأسد والشخصيات السورية الرسمية وأعضاء الجالية الأرمنية.

وخلال مأدبة العشاء على شرف الضيف الأرمني في قصر الشعب قال الرئيس الراحل حافظ الأسد في خطابه الترحيبي ما يلي: «إنكم تحلون في بلد فتح في ساعة المحنة والشدة ذراعيه للأرمن الذين لجؤوا إليه، فوجدوا فيه الأمن والاستقرار، وعاشوا في راحة وطمأنينة، وأصبحوا جزءاً من شعبه، لهم ما لسائر أبناء البلد من حقوق وواجبات المواطنين، فاندمجوا في حياة سورية التي وفرت لهم فرص الحياة الكريمة والحرية الكاملة للحفاظ على لغتهم وتراثهم الروحي والقومي، فبادلوها المحبة، وعاشوا مواطنين شرفاء، وساهموا بجهودهم ومهاراتهم في إغناء حياة البلاد، واكتسبوا بفضل إخلاصهم للوطن السوري تقدير واحترام هذا الوطن حكومة وشعباً.

لقيت زيارة دير بيدروسيان ترحيباً شعبياً حاراً في العاصمة دمشق، وفي حلب حيث جرت مسيرات شعبية كبيرة، وتعتبر زيارة تاريخية ودليلاً على إرادة وعزم الطرفين على تمتين عرا الصداقة وتعزيز التعاون بينهما في شتى الميادين، وجرى خلال الزيارة التي استغرقت 3 أيام، مباحثات ودية بين الطرفين نوقشت خلالها مواقفهما حول القضايا الدولية والإقليمية وسبل التعاون بين الدولتين.

أرمينيا وسورية علاقات توءمة بين بلدين تعيش في ذاكرة الشعبين، وتنتقل من جيل إلى آخر، تعززت وترسخت خلال مراحل تاريخية وظروف مختلفة.

إن هذه العلاقات ما هي إلا جزء من العلاقات الأرمينية- العربية التي تشكلت في عمق التاريخ وتطورت نتيجة الاحتكاك والتعامل المباشر للشعبين عبر العصور، فدراسة تاريخ هذه العلاقات تسمح لنا بتقسيمها إلى مرحلتين تاريخيتين، يختلف بعضها عن بعض بخصوصياتها وظواهرها التاريخية والاجتماعية.

بقلم: سارة سلامة
نقلا عن صحيفة الوطن السورية

scroll to top