1485.jpg

قتل أمرىء في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر

قتل أمرىء في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر

إن عصرنا الحاضر لا يماثله عصر آخر من العصور السابقة، فهو عصر التحولات الكبرى، والثورات الكبرى، والحروب الكونية، والصفقات التي شملت حتى الشعوب، باختصار هو عصر العقل والجنون، حقوق الإنسان وذبح الإنسان، عصر الصعود الهائل، والسقوط المدوي، التكتل الكبير، والتفكك الأكبر، ومع ذلك تستمر دورة الحياة وإن تغيرت الأشكال والمعايير.

قضايا كثيرة في عصرنا قد وجدت الحل أو الطريق إلى الحل، لكن القضية الأرمنية والإبادة التي تعرض لها الأرمن مطلع القرن الماضي تبقى الأكثر غرابة – إن صح هذا التعبير – فالشعب الأرمني والوطن الأرمني، والحضارة الأرمنية، كيان قائم ناجز، له تاريخه واستقلاله وأبجديته وملوكه وفنه الرائع، وترائه العظيم، وتأثيره في المنطقة، ولم يكن هذا الشعب غازيا متوحشا أو بربريا سفاكا للدماء، على العكس كل ما عرف عنه حبه للعمل وإخلاصه فيه، وميله إلى السلام والإبداع، فالأرمني صانع ماهر، متحضر، يقبل على العمل بقلب مفتوح، لاتحكمه عقدة تاريخية ولا شعور بالنقص، قادر على التجدد والتكوين والانبعاث من الرماد وإلا لما استطاع غيره بعد كل ما جرى له أن يقف على قدميه ويواجه الظلم التاريخي الذي لامثيل له، هذا الظلم الذي لا يوصف.

هذا الشعب الذي وقع تحت الاحتلال العثماني الطارئ على المنطقة تظل مأساته مأساة العصر بكل المقاييس.

– فلم يعرف تجاهل لقضية كالقضية الأرمنية.
– ولم يعرف تواطؤ كما جرى في القضية الأرمنية.
– ولم يذكر في التاريخ عن معاملة وحشية كما عومل الشعب الأرمني.
– الغرب أغمض عينيه وإن شارك بعضهم.
– الشرق أدار ظهره.
– والجيران من العرب كانوا تحت الاحتلال لا حول ولا قوة.

والجزار أعد كل شيء للمجزرة: السكاكين واللصوص والجندرمة وقطاع الطرق، والعشائر المتوحشة. أطلق جنوده ووحشيته ضد الأطفال والنساء. ضد المفكرين والشبان القادرين والكهول. أطلق كلاب حراسته وكان الإنسان طريدته. استنهض أحقاده وكراهيته الموروثة لكل ما هو إنساني ومتحضر ومبدع. الكنائس والصلبان والإنسان. البيوت والأموال والثياب والدكاكين، العيون والبطون والقلوب. وحين جلس على تلال الجماجم والأجساد رفع يديه الملوثتين بالدم وقال: لم أفعل شيئا

لم يكن ما جرى قتلا أو إبادة وحشية وإنما كان كل ذلك وأكثر، فالبراري جافت من جثث الحوامل والشيوخ والأطفال الذين خلفتهم طوابير الرحيل القسري في أورفة والرقة ومسكنة ودير الزير والشدادي ومرقدة ولا زالت صورها في ذاكرة الناس توارثوها عن الآباء كجزء من طوفان الموت الأرمني. حتى الأنهار الفرات ودجلة والخابور فاضت بأولئك القتلى كما فاضت الآبار والكهوف.

فكان النزوح الكبير والموت الكبير مقدمة في ما بعد لنزوح آخر وموت آخر هو النزوح الفلسطيني – ألم نقل إنه عصر النزوحات – واليوم يحق لنا مع أديب اسحق أن نردد قوله: قتل أمرىء في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر

اليوم تأتي هذه السلسلة من المقالات والمعلومات عبر موقع خبر أرمني عن القضية الأرمنية من وجهة نظر القانون الدولي لتوثق ما جرى باسانيدها القانونية لقضية لاتحتاج إلى فضل قول فما كتبه عنها فائز الغصين في شهادته، ومورغنتاو في “قتل أمة” وتوينبي وغيرهم من الناس الذين لا زالت صور المآساة في ذاكرتهم أكثر من دليل مما يعطي الحق لهذا الشعب أن يردد مقولته الدائمة (حيث كنا لن ننسى) ومن يقدر على النسيان، فأرمينيا ما زالت جريحة، طيورها وثعالبها ولقالقها وأنهارها، تنتظر عودة الأهل إلى الفردوس المسلوب.

والأرمن، الشعب الذي بكى دما.. لم يكن عالة على غيره، فهو لم يستسلم للحزن إذ حول كل مكان نزل فيه إلى ورشة عمل تقدم للبلد كل ما يلزمه من صناعة وطب وهندسة وعمارة فكسب احترام الجميع قبل عطفهم وقلوبهم.

اليوم… الكل مدعوون للتعرف بالإبادة الأرمنية وكشف الأدوار التي لعبها الآخرون.. حتى لايبقى الجزار بمنأى عن العقاب هذا ما يدعو إليه الواجب الإنساني.

scroll to top