13584.jpg

حارة كنيسة الأرمن في القاهرة

حارة كنيسة الأرمن في القاهرة

عندما تحكي جغرافيا المكان التاريخ وقصص الماضي، فحتمًا أنت في مصر، ففي طيات شوارعها تاريخٌ نابض يحكي عظمة المكان الذي لطالما تغنى بها أجيال عاشوا فقط على مجد الماضي إلى الحد الذي أنساهم أن يصنعوا مجدًا تعيش عليه أجيالهم القادمة.

والقاهرة هي خير شاهد على هذا، فهي تحكي بشوارعها وحواريها تاريخا لم يتبق منه إلا أسماء لم يلتفت إليها الكثير ليعرفوا دلالتها، فهناك العديد والعديد من الدروب والحارات التي تحكي قصص وحكايات متباينة الأزمنة والأمكنة لم يتعرف عليها هذا الجيل، ومن بين هذه الدروب والحواري ما يحكي قصص بلاد وقوميات عاشت على أرض مصر وسطرت بوجودها تاريخ العالم وبصماته على أرض الحضارة.

“القاهرة الفاطمية” مثلها مثل كل المدن الإسلامية القديمة، كالقيروان وحلب وغيرهما من المدن الإسلامية الأخرى، كانت تُخطط حارات وشوارع بناءً على المهن أو الحرف أو الدين أو الجنس أو القوميات”.. بدأ الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر كلامه عن شوارع وحارات القاهرة بهذه الكلمات الافتتاحية المفسرة لأسماء العديد من الشوارع والحارات، مثل حارة كنيسة الأرمن وحارة اليهود وحارة الروم ودرب الأتراك ودرب البرابرة وشارع الكارجي.

ولكل من تلك الأسماء حكاية قد تكون جديدة على البعض، وقد تحمل حنين إلى عصور كان فيها العالم يوجد في مصر.

-درب الأتراك هو اسم لشارع خلف الأزهر مباشرةً، يشتهر ببيع كتب التراث والكتب الدينية، وعند السؤال على سبب تسمية هذا الشارع بهذا الاسم، تجد أن معظم باعة الكتب يعرفون السبب، سواء كانوا رجالًا أو نساءً، فها هو “شعبان محمد” صاحب دار الإيمان لكتب التراث يروي لنا قصة تسمية الشارع.

ويقول: “الأزهر يُقسم من الداخل أروقة، كل رواق يُسمى باسم مجموعة قومية معينة، فمثلًا يوجد رواق الأفغان، رواق الشوام، رواق الأتراك وهكذا، وقديمًا كان الطلاب يأتون لطلب العلم ويُقيمون في هذه الأروقة إقامة كاملة، كلٌ في رواقه، كأنها سكن جامعي بالمعنى الحديث، ولما كان الطلاب الأتراك كُثُر ورواق الأتراك لا يسعهم، هنا تسلل الأتراك من هذا الباب ليستأجروا بيوتًا من هذا الشارع المقابل لرواقهم وملئوا الشارع حتى سُمي درب الأتراك”.

وعن حال تلك المنطقة الآن فحدث ولا حرج، إذ أن ترميمات الأزهر التي لازالت قائمة منذ أكثر من سنتين تُنفر منه الزائرين، وتجعلهم على عجلٍ من أمرهم، وهذا يُضايق أصحاب مكتبات التراث والمحال التي تعد أرزاقها قائمةً على هؤلاء الزوار، فبعد أن كان طلاب الأزهر وأروقة الأزهر تجمع الأجناس كافة وتضعهم في هذه المنطقة، بدء العدد يتراجع وحتى الموجودين في عجلٍ ونفور من تلك الترميمات التي لا تنتهي.

-درب البرابرة شارع ضيق يمتد من شارع الجيش بباب الشعرية إلى شارع بورسعيد، تقصده كل أسرة جاءها مولود جديد، ولكن مع الغلاء الذي نحياه فلقلما تزوره الأسر، أو إن لزم الأمر فمرة واحدة لأول مولود كافية جدًا، أو كما يقول يوسف بائع مستلزمات السبوع معبرًا عن غضبه تجاه الغلاء وتأثير ذلك على عمله كبائع: “أنا لو جبت واد هجبله بامبرز وأكله ولا أعمله سبوع؟ دي شغلانة خلاص معتش جايبة همها، الناس بتزق في الشهر عشان يمشي بالعافية” أما محمد مدير محل نجف بشارع درب البرابرة فيقول: “الشارع هنا مشهور بالنجف ومستلزمات السبوع، بس مع الغلا مبقاش في إقبال زي الأول”.

وعند رؤيتك للألوان الزاهية في هذا الشارع لا تتخيل أن هذا الشارع كان فيما مضى مُتشحًا بالسواد، ليس سواد الألوان ولا القلوب ولكن سواد الوجوه، فـ “البرابرة” كلمة تُطلق على أهل النوبة والأفارقة من السود، ويقول دكتور محمد رفعت مُعلقًا على هذه التسمية: ” حتى عام 1920 أي قبل إصدار قانون الجنسية المصري الموحد، كان يُكتب لأهل النوبة في أوراقهم الشخصية عند خانة الجنسية كلمة “بربري”، فالبربري كلمة تُطلق على الأفارقة السود الذين كانوا يعملون في الأعمال البدنية الصعبة” ويعد درب البرابرة قديمًا هو مُلتقى وسكن البرابرة في مصر، إلا أنه الآن أصبح ملجأ للأشياء المُبهجة من نجف ومستلزمات حفلات السبوع، ولم يتبق من البربر إلا بعض المساكن الشاهدة على وجودهم يومًا ما فضلًا عن اسمهم الذين تركوه محفورًا في تكوين هذا الشارع مدى الدهر.

شارع الكرجي هو متفرع من شارع الترعة بمنطقة شبرا، يمكث رءوف على ناصيته بعربة الفاكهة المُبهجة منذ ما يزيد عن اثنى عشر عامًا، وهو قبطي ودود في الثانية والأربعين من عمره، يساعد من يسأله عن أي عنوان لمعرفته الجيدة بشبرا وشوارعها، وهو رغم وجوده في القاهرة إلا أن لهجته الصعيدية لم تُفارقه بالكامل، ماعدا رءوف وعربة الفاكهة الموجودين على بداية الشارع لا يوجد شيء مميز، ولكن قد يكون للتاريخ رأيًا آخر.

“شارع الكرجي نسبةً إلى الكُرﭾ، وهم أهل جورجيا، ولم يكن للكرج جالية في مصر، بل أتوا إلى مصر كمماليك وغُلمان تم اختطافهم وبيعهم كعبيد واشتراهم المصريين من بلاد القوقاز”. للتاريخ دومًا حكايا مُثيرة، هكذا يحكي لنا المؤرخ الدكتور رفعت الإمام عن شارع الكرجي وتاريخه، ومن ضمن الكُرج الذين سكنوا هذا الشارع “إبراهيم بك” حاكم مصر في زمن الحملة الفرنسية، والذي لا زال إلى الآن يحمل اسمه شارع من أكبر شوارع “تبليسي” عاصمة جورجيا، فضلا عن مدرسة تحمل اسمه ويُصرف عليها من وقفيته الخاصة.

حارة اليهود، عند تقسيم القاهرة قديمًا كان هناك مكانًا مخصصًا لليهود، ولم تكن حارة اليهود مجرد زقاق صغير يسكنه عدد ضئيل من الناس، بل كانت تضم عدد هائل من اليهود على اختلاف مللهم، إذ كانت عبارة عن ما يقرُب من 360 زقاق وحارة، تحتوي على معابد يهودية لم يعد لها ظهور الآن كما كان في الماضي، وحارة اليهود الآن هي حارة تجارية من الطراز الأول،إن ذهبت لتشتري ملابس ومفروشات أو مستلزمات منزلية ومعك أحدهم، فلن تستطيع أن تمشي معه جنبًا إلى جنب، إذ أن المكان لن يتسع إلا لذاهب واحد وقادم واحد، أما عن عربات اليد التي تحمل البضائع فحدث ولا حرج، إذ فور مرور أحدها يتوقف الطريق بلا حركة، ولن تسمع إلا سبابًا ولعنًا، وإن فكرت التخلي عن المُضي قُدُمًا قد لا تجد شارعًا جانبيًا تعبر منه إلى البراح.

حارة كنيسة الأرمن

“سُميت بهذ الاسم نسبةً لأول كنيسة تم إنشاءها للأرمن عام 1839م، بدرب الجنينة، وسكنها العديد من المشاهير كلبلبة وفيروز ونجيب الريحاني” هكذا عرفها دكتور محمد رفعت، ولكن ما آلت إليه أحوالها الآن لا يدعوا للسرور، إذ أنها بيوت آيلة للسقوط، لا تستطيع أن تُحدد من بين تلك البيوت الخربة أين كانت المشاهير تقطن.

ولكن اسمها سيظل حافرًا في الأذهان أن هنا حارة الأرمن الذين تواجدوا دومًا في مصر، وكانوا -رغم تمسكهم بقوميتهم- جزءً من النسيج المصري، في حواريه وفي قصوره وحتى في حكامه فقد كان أول رئيس وزراء لمصر أرمني الموطن “نوبار باشا”، وله مواقف تاريخية قادرة على حفر اسمه في تاريخ هذا البلد.

حارة الروم – فور وجودك في شارع الغورية وسؤالك عن حارة الروم، سيقول لك العارف: “خامس حارة عالشمال عند سبيل محمد على”، وعندما تتمشى لحارة الروم تجد نفسك تمشي وسط تاريخ نابض، فها هي القاهرة الفاطمية بمبانيها الضخمة وعبقُها الذي لازال حاضرًا رغم وجود الباعة والبضائع المتباينة التي يغلب عليها الملابس والمأكولات.
يوم أن كان العالم يُقيم في مصر، شاهدًا على عظمتها وبهاءها وأنها كانت قِبلة العالم ومقصد المهاجرين والسائحين والتجار والدارسين، تلك الأيام ولت الآن وأصبح الوضع مُغايرًا، إذ أن المصريين هم من يسعون إلى الهجرة ناظرين ببهاءٍ إلى بلادٍ كان أهلها يسعون إلى مصر بكل ما يستطيعون إليها سبيلا، وظلت شوارعنا وحاراتنا المصرية شاهدةً على وجود العالم في مصر.

بقلم: حنان فوزي الميهي | نقلا عن فيتو المصرية

scroll to top