122822.jpg

الميادين: أرمينيا.. عنبٌ وجوز - بقلم علي هاشم

الميادين: أرمينيا.. عنبٌ وجوز – بقلم علي هاشم

الإبادة في وجدان الأرمن دين وعقيدة، نبض قلب لا يتوقّف، دمعةٌ حارقةٌ تكوي متى ما ذُرفت وهي ما تنفك تُذرف كل يوم. يعيش أهل البلاد مأساتهم وكأنها إبنة الأمس، ترى ذلك في أدبيّاتهم، في استقبالهم للقادمين من بلاد استضافت الناجين من المجزرة حيث تكوّن لأرمينيا مُجتمع الشتات.

بين الجبال مدينة تُشبه وجه رجل ٍيقف على ناصية ساحة الجمهورية يبيع عنباً محشوّاً بالجوز الأبيض المُقرمش. كيف يُحشى العنب؟ أو لنقل كيف يستحيل العنب رداء يلتحفه الجوز ليقيه عشر درجات مئؤية تحت الصفر تحت مرأى التاريخ المُتنقّل بين حيّ وحيّ؟ والعنب أصل النبيذ، والنبيذ في التُراث دم قانٍ، وجع، ألم، وحياة. أما الجوز فتلك قصة أخرى. قصة المراحل التي يقطعها المرء بين باب وباب، يَكسر الصعاب من دون أن يُكسر، ويبقى واقفاً كما شجرة عصيّة على الموت، حتى وإن جاء الموت على شكل فأس ٍلا تعرف الرحمة.

في يريفان تعيش الحكاية في الوجوه، تتصفّحها في خريطة الحَمض النووي لكل عابر سبيل، وكل العابرين سواء في الذاكرة والألم، وكل عابر قصة في المدينة قصة بذاتها في دَرب ذات الشوكة التي ارتضاها شعب قرّر أن الانتقام من قَتل الأجداد أمضى إن جاء بالحياة. والحياة في بلاد الأرمن خط ٌطويل لا يُدرك آخره، وجبل آرارات شاهد على ذلك، فعلى قمّته تقول الحكاية إن سفينة نوح استقرّت، وعلى مرأى منه تستقرّ بالقُرب من يريفيان أقدم كاتدرائية في العالم، كنيسة إتشميازين التي تعود إلى 303 ميلادية. آرارات ليس جبلاً فحسب، هو صورة كل بيت ونغمة كل لحن وأًصل الأصل بالنسبة إلى شعبٍ سمّى نفسه بشعب آرارات.

يقع الجبل الموقّر في عُلاه على مُفترق طريق اقليمي عجيب بين تركيا وأرمينيا وأذربيجان وإيران. وهو إن شَهِد على رسوّ سفينة نوح قبل قرون من الزمن فقد سجّل في ذاكرته مشاهد الإبادة المُمنهجة التي أصابت شعبه قبل قرن وعامين على يد السلطة العثمانية. الإبادة في وجدان الأرمن دين وعقيدة، نبض قلب لا يتوقّف، دمعةٌ حارقةٌ تكوي متى ما ذُرفت وهي ما تنفك تُذرف كل يوم. يعيش أهل البلاد مأساتهم وكأنها إبنة الأمس، ترى ذلك في أدبيّاتهم، في استقبالهم للقادمين من بلاد استضافت الناجين من المجزرة حيث تكوّن لأرمينيا مُجتمع الشتات. قد مرّ حقاً قرنٌ وعامين على الإبادة وعلى الهجرة وعلى الشتات ولكن أرمينيا في الشارع أو المقهى أو خلف مكتب وثير، حينما يدرك أن القادم من لبنان أو سوريا يبادر فوراً إلى تقديم الشُكر على واجب الأجداد. فجأة تشعر أن الخير في هذه البلاد ينسابُ كما المطر، يُشبه إلى حد أشعة الشمس التي لا توفّر أحداً من دفئها، لا سيما وأن الشُكر على الواجب ليس أمراً شائعاً في منطقتنا، كُثُر لدينا يقومون بما هو أكثر من الواجب وكل ما ينالونه في المُقابل اللّوم.

لأبناء الشتات الأرمني مواطِن عدّة، لكن القلب يأنَس للأصل. لا ينفي هذا وفاء وانتماء إلى دول أصبحوا جزءاً من نسيجها، كلبنان وسوريا والعراق ومصر في منطقتنا، وأميركا وبريطانيا وفرنسا وبولندا على القاطِع الآخر من العالم. حامُل الجنسيتين هو “100% أرميني و 100% فرنسي” كما يقول الفنان الفرنسي من أصلٍ أرميني شارل أزانفور الذي افتتح متحفاً يحمل إسمه بالقُرب من مدارِج يريفان التي تحوي متحفاً لمُتحدّر أرميني آخر جيرارد كافسجيان الذي وهبَ مُقتنياته الفنية المؤلّفة من 5000 منحوتة ولوحة وغيرها لتُعرض في أكثر مكان يرتاده الناس، أكبر محطّات المترو في العاصمة. كان شرطه الوحيد أن تُعرض مجاناً. يأخذنا الكلام عن الفن والألم والشتات إلى بيت المُخرج السوفياتي الأرمني سيرجي باراجانوف المُتوفى في العام 1990 عن 66 عاماً والذي جرى تحويله إلى متحف.

باراجانوف ليس إسما عابراً في تاريخ أرمينيا الحديث وهو صاحب المدرسة الإخراجية المُثيرة للجدَل، والمُستفزّ للسُلطة السوفياتية التي قبعَ في سجونها لسنواتٍ خمس. الزنزانة حاضرة في المتحف، هناك صنعَ سيرجي من بقايا ما كان يُقدّم له لوحات فنية، حوّل الأغطية المعدنية لزجاجات الحليب إلى قلاّدات وتذكارات، وكتب وكتب وكأنّ السجن لن ينتهي، لكنه انتهى ومعه تصدّعت صحّته إلى أن فارق الحياة قبل أن يرى استقلال أرمينيا.

صحيح أن البلاد تحرّرت من الحُكم السوفياتي لكن تاريخاً طويلاً لا يُمكن إلا أن يترك أثره في روح أرمينيا، والذكريات من زمنٍ مضى أضحت اليوم قصصاً تُحكى في كل مكان. واحدة منها قصة المسجد الأزرق الأثري في يريفان، وهو المسجد الوحيد فيها. بناه في القرن الثامن عشر ملك السلالة الأفشارية في بلاد فارس نادر شاه أفشار. لكن المسجد العتيق الجميل بزخارفه الفيروزية كاد أن يُلحق بالكنائس والمساجد التي دمّرها النظام الشيوعي، إلا أن شاعراً أرمينياً شهيراً يُدعى يغيشه تشارينتس أنقذه باعتصامه فيه أولاً ومن ثم اقتراحه تحويل المكان إلى متحفٍ بدل هدمه. هكذا جرى الحفاظ على المسجد إلى أن عاد اليوم لتؤم فيه الصلاة، لكن المفاجأة الرمزية أن السيّدة التي تهتم بالإرث الثقافي الذي فيه وبزواره هي أرمينية مسيحية إيرانية.

جميلة هي أرمينيا، فُسيفساء ثقافية تاريخية إنسانية مصحوبة بموسيقى اللغة التي تحوي كلماتها مُشتقّات من الروسية والفارسية والفرنسية والعربية والتركية، تشبه الجميع لكنها في الوقت عينه فريدة بما تُعبّر عنه، بما تحويه من إشارات وصوَر ورموز ترسم بالأحرف دمعة وابتسامة.

بقلم: علي هاشم | المصدر: الميادين نت

scroll to top